منذ سنوات، يواظب يونس ديّوب على فتح باب قلعة المرقب يوميا، أملا باستقبال سوّاح أو زوار لطالما اكتظ بهم الموقع الأثري المطل على الساحل السوري. صباح كل يوم، يقصد ديوب (49 عاما) القلعة المشرفة على شاطئ مدينة بانياس التابعة لمحافظة طرطوس، حاملا مفتاحا حديديا كبيرا لفتح بابها الرئيسي. ويجلس داخل غرفة خشبية اعتاد استخدامها لقطع تذاكر الزوار، الذين بات توافدهم شبه معدوم منذ اندلاع النزاع وعلى وقع الأزمة الاقتصادية الحادة التي تعيشها البلاد. وتشمخ قلعة المرقب الواقعة على بعد 5 كم شرق مدينة بانياس والتي اعتبرها الباحثون الأثريون إحدى أهم القلاع التي بنيت في العصور الوسطى في العالم بأسره، كما صنفتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم قلعة تاريخية مهمة لاحتوائها على تراث إنساني عظيم وسجلت على اللائحة التوجيهية لليونسكو. ويعود بناء القلعة للسكان المحليين للمنطقة سنة 1062 لتقع تحت الاحتلال البيزنطي عام 1104 لفترة قصيرة ثم كانت هدفا دائما للحملات الصليبية التي اجتاحت الساحل الشامي وتتالت عمليات احتلالها واسترجاعها حتى استردت نهائيا على يد السلطان المملوكي المنصور قلاوون في مايو 1285. ◙ شكل القلعة المعماري عبارة عن مثلث مساحته نحو ستين ألف متر مربع تتجه زاويته الحادة نحو الجنوب ويندمج حرفه مع الصخور المشكلة لجبل الأنصارية وبعد استرداد المرقب صرفت مبالغ كبيرة لإعادة تحصينها فظهرت عليها بعض الإضافات الجميلة، ولكن بعد الطرد الكامل للصليبيين من المنطقة بدأت تفقد أهميتها وانعكس تضاؤل دورها في الفترة المملوكية والعثمانية على انخفاض التحسينات المعمارية على بنيانها. ويقول الحارس الذي تولى وظيفته قبل 15 عاما "رغم أن أبواب القلعة لا تزال مفتوحة، تمرّ أيام وأسابيع من دون أن أقطع أي تذكرة". ويُضيف "هذا هو الحال منذ بدء الحرب" التي عصفت بسوريا منذ العام 2011. وعوض أن يقطع التذاكر، يمضي وقته في احتساء الشاي الساخن وتأمل الشاطئ واستعادة ذكريات ما قبل زمن الحرب، حين كانت القلعة المرصّعة بالحجارة البيضاء والسوداء تكتظ بقاصديها من سوريا ومن خارجها. ويقلب بين الحين والآخر صورا التقطها للسياح في زمن مضى. شكل القلعة المعماري عبارة عن مثلث مساحته نحو ستين ألف متر مربع تتجه زاويته الحادة نحو الجنوب ويندمج حرفه مع الصخور المشكلة لجبل الأنصارية والتي كانت نقطة ضعف الموقع في الجهة الجنوبية والسبب في زيادة التحصين عند هذه الزاوية الدائرية لصد الهجمات المتوقعة من ذلك الاتجاه. وتتألف القلعة من سورين مزدوجين أحدهما خارجي والآخر داخلي لزيادة تحصين القلعة ومناعتها، إضافة إلى القلعة الخارجية التي تشمل الأبنية السكنية والقلعة الداخلية التي تتضمن مجموعة الأبنية الدفاعية المحصنة بأبراج دائرية ومستطيلة يعلوها البرج الرئيسي والتي تسيطر على مساحة واسعة تمتد إلى كل الجهات زودت بمرامي السهام والحجارة ويحيط بالسور الخارجي من الشرق خندق عميق محفور في الطبقة الصخرية. أما القلعة الداخلية فهي عبارة عن بناء مستطيل الشكل تقريبا لها حلقتان من الأسوار تقع على الذروة الجنوبية للقلعة وتفصلها عن القلعة الخارجية قناة مائية عريضة في الجهة الشمالية من الحصن الداخلي. قلعة معلقة من أهم قلاع العصور الوسطى وتم الدخول إلى القلعة عبر برج البوابة الرئيسي والذي يمكن الوصول من خلاله إلى الحصن الداخلي، مشكّلا صلة وصل بين السورين الداخلي والخارجي، أما قاعات القلعة فموزعة في أبراجها ومن منشآتها مسجدها الذي بني بعد استرجاعها من الفرنج، إضافة إلى وجود العديد من الاصطبلات والمخازن والمستودعات المنفصلة وغيرها، أما الكنيسة وهي أكثر الأبنية ارتفاعا بين الأبنية المحيطة بالساحة الرئيسية فهي بناء موجه باتجاه شرق غرب وبشكل طولي كما هي معظم الكنائس ومخططها شبيه بمخطط كنائس جنوب فرنسا في القرن الحادي عشر ويمكن أن نعيد بناء الكنيسة للربع الأخير من القرن الثاني عشر. وحين يشعر بالملل، يترك ديوب مقعده ويتجول في أنحاء القلعة ذات الجدران المرتفعة والخالية من أيّ مظهر من مظاهر الحياة. ويُضيف أثناء سيره بخطوات بطيئة "حرب طيلة سنوات ثم وباء كورونا، فأزمة المحروقات، كل ذلك أوقف توافد السياح، وتراجعت الزيارات الداخلية بشكل كبير". ودفع النزاع المتواصل في البلاد إلى عزوف السياح الأجانب عن زيارة سوريا. ◙ الباحثون الأثريون يعتبرون قلعة المرقب إحدى أهم القلاع التي بنيت في العصور الوسطى في العالم بأسره وفرضت ظروف غلاء المعيشة وندرة المحروقات صعوبات إضافية على السكان المحليين، جعلت السياحة من أواخر أولوياتهم، لينصبّ اهتمامهم اليوم على تأمين قوتهم اليومي، في بلد يعيش معظم سكّانه تحت خط الفقر وفق الأمم المتحدة. ونجت قلعة المرقب التي يقترب عمرها وفق المديرية العامة للآثار والمتاحف السورية من الألف سنة، من تداعيات النزاع، إذ لم تطلها إلا بضع قذائف ورصاص العام 2011. ويقول ديّوب بعدما شرع في لملمة أغراضه ليغلق باب القلعة خلفه مع انتهاء دوامه "أشعر بالوحدة هنا، وليس لي من أصدقاء إلا هذه الجدران العالية الصامتة". ويُضيف "قطعتُ عهدا على نفسي أن أدخل الزوّار مجانا وعلى نفقتي الخاصة لمدة أسبوع عندما تعود الحركة إلى سابق عهدها.. أتمنى أن يأتي ذلك اليوم قريبا". ونظرا لأهمية القلعة تراثيا وطبيعيا فقد أدرجت على قائمة مشروع اليورميد التابع لاتحاد دول اليورميد وهي إسبانيا واليونان وسوريا والبرتغال والجزائر ومصر بهدف توثيق التراث الدفاعي لدول البحر المتوسط والمحافظة على القيمة الاقتصادية والحضارية للمواقع الدفاعية المطلة على مسطحات مائية. وقامت المديرية السورية للآثار والمتاحف بتنفيذ العديد من مشاريع الترميم والحماية منذ عام 1959 وتسجيلها أثريا على لائحة التراث الوطني حيث ركزت هذه المشاريع في البداية على معالجة المشاكل الإنشائية وترميم المناطق الخطرة والمهددة للسلامة العامة وترميم وإغلاق الفتحات الخارجية للقلعة.
مشاركة :