لم يكن إعلان بنك الشعب الصيني عن تخفيض مفاجئ لسعر الفائدة على الإقراض بمقدار 10 نقاط أساس مجرد قرار نقدي محلي منقطع الصلة عن التطورات الراهنة في الاقتصاد الدولي. فقد أتى هذا القرار في سياق دولي شديد الاضطراب، وفي ظل وجود اتجاه عام لرفع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة ومنطقة «اليورو» لمواجهة التضخم المشتعل في أسواقهما والذي يناهز حالياً حاجز الـ 10%. ولذلك، فالصحيح هو النظر لهذه السياسة الاقتصادية الصينية في إطار دولي أوسع، باعتبارها امتداداً للتنافس المحتدم بينها وبين الاقتصاد الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.ولعل المتمعن في أبعاد التنافس الاقتصادي الصيني-الأميركي يرى أن هذا التنافس ينتقل بين الحين والآخر من التنافس التجاري إلى التنافس على السيولة الدولية ذاتها. فبينما حسمت الصين المنافسة التجارية لصالح ميزانها التجاري في عالم ما قبل كورونا؛ فإنها تحاول الآن تقديم نفسها بديلاً دولياً أكثر ملاءمة وجاذبية للاستثمارات الأجنبية المباشرة؛ تلك الاستثمارات التي تكافح للنزول بتكاليف الإنتاج والتشغيل والتصدير بعد تضررها بفعل شيوع التضخم عالمياً. وعلى الرغم من أن هناك عوامل محلية صينية يمكنها أن تفسر هذا التخفيض في أسعار الفائدة، وخصوصاً أن التضخم في السوق الصينية مازال تحت السيطرة ويدور حول معدل 2.7%، فإن ذلك لا يمنع من وجود منافع خارجية يحاول الاقتصاد الصيني أن يجنيها من مثل هذا التيسير النقدي. فمع الرفع المستمر لأسعار الفائدة الأميركية، وبما ينعكس في شكل تدفق المزيد من الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة لشراء سندات الخزانة، فإن ذلك يأتي على حساب الحوافز التي تبحث عنها النوعية المباشرة من الاستثمارات الأجنبية؛ ذلك أن التشديد النقدي الأميركي يزيد أعباء الإنتاج وتكاليفه على هذه الاستثمارات الخاصة، فضلاً عن كونه يضعف الطلب المحلي والدولي على منتجاتها. وهنا تحديداً تظهر السوق الصينية، محاولة أن تكون الوجهة الأكثر جاذبية لهذه الاستثمارات الدولية، وساعية وراء تضييق الفجوة القائمة بينها وبين الاقتصاد الأميركي في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة. ففي العام الماضي وحده (2021) بلغت قيمة تدفقات هذه الاستثمارات للسوق الأميركية ضعف ما تدفق للسوق الصينية، حيث تدفق للسوق الأميركية نحو 367 مليار دولار، في حين تدفق للسوق الصينية نحو 181 مليار دولار. وفعالية الفائدة المنخفضة في زيادة تنافسية الاقتصاد الصيني أمام الاستثمارات الأجنبية المباشرة للصين تظل مرهونة بالتطور في عدة ملفات دولية؛ منها مثلاً المآلات المحتملة للملف التايواني، ومنها كذلك ما يشهده ملف صناعة الرقائق الإلكترونية في ظل الدعم السخي الذي رصدته الحكومة الأميركية لهذا القطاع بمبلغ 52 مليار دولار، ومنها أيضاً ملف القيود والاشتراطات البيئية المتصلة بأنشطة الاستثمار الأجنبي. ومهما يكن مستوى هذه الفعّالية، فلا مراء في أن السوق الصينية ستظل هي الوجهة الثانية الأعلى جذباً للاستثمارات الأجنبية المباشرة بعد السوق الأميركية. مركز تريندز للبحوث والاستشارات
مشاركة :