الشعر حالة تعبيرية سامية، تختزل المسالك إلى الوجدان، فتؤثر في المتلقين، ويتفاعلون معها بدرجات متفاوتة، تبعا لحالاتهم الشعورية والذوقية والثقافية، ولكل شاعر مقدرته الشعرية الخاصة، ما سوّغ لنقاد الشعر منذ ابن سلام الجمحي أن يصنفوا الشعراء في طبقات ودرجات متعالية.تفاعل نفس الشاعر مع الزمان والمكان والأحداث والمشاهدات يولد الباعث، وهو المسؤول عن إنتاج القصيدة، أما جودتها فمتروكة لمقدرة الشاعر الفنية، فالشاعر القدير يجول خياله في عوالم المعاني المتجددة وينتقي أقدرها على إظهار مراده، ثم ينتقي من خزائنه اللغوية الرداء اللفظي المناسب لمعناه، فتأتي القصيدة درة براقة مؤثرة لا يملك المتلقي أمامها سوى الاستسلام لسحر بيانها، وهكذا يتراتب الشعراء في الاستجابة لبواعثهم، وتأتي مراتبهم بحسب تحليقهم، وثرواتهم اللغوية، وبحسب رؤيتهم وفهمهم للشعر، وغايتهم من التعبير به.على المستوى العام للشعر بنوعيه (الفصيح/ والشعبي)، فقد قرأت وسمعت الكثير منه، وشاركت في تحكيم دواوين شعرية، ومسابقات على مستوى الكبار والمواهب، وسأتحدث بلغة بسيطة مباشرة لا مصطلحات نقدية فيها ولا تعقيد، ذلك أني لمست لبسا عند كثيرين في شأنه، وهذا اللبس يأتي في درجات متفاوتة، فكثير من الشعراء وقعوا في أسر القصيدة التقليدية المباشرة، فلا يأتي الشاعر بجديد، ومعظم معانيه وصوره وأخيلته مستهلكة، (الكريم كالبحر/ والجميلة كالقمر/ والشامخ كالنخل/ وهكذا ....) فلا جدة ولا ابتكار، وهذا ينسحب على الشعر الشعبي، فما يزال كثير من شعرائه أسرى للقوالب الشعرية البالية، ولا يستطيعون الانفكاك منها.وهناك شعراء مغرمون بالمحسنات اللفظية، يشغلهم اللفظ عن ابتكار المعاني، فغايته أن يجد لعبة لفظية بين المفردات ويظل مشغولا بها، فيأتي النص مبهرا لفظيا، لكنه يحترق بعد القراءة أو السماع الأول، لقلة ماء الشعر فيه، وربما جاء هذا من الموروث الذي فهموا الشعر من خلاله، فكانت تحيط بهم نماذج شعرية اعتمد منشؤوها على الألعاب اللفظية، ولعل خير مثال له في الشعر الشعبي ما يدور في شعر العرضة الجنوبية المعتمدة على لعبة الشقر (الجناس)، فهو يشغل الشعراء عن بناء معنى متكامل مؤثر إلا لدى قليل من مبدعي هذا الفن، وعلى المستوى الفصيح ما يتداول من رسائل إلكترونية يحاول منشؤوها إبهار القراء من خلالها بعظمة العربية في يوم الاحتفاء بها، فيأتون بإبداعات تعتمد معظمها على الألعاب اللفظية في الشعر والنثر، كالسجع والجناس وغيرها، وبيت تقرؤه من اليمين وتستطيع قراءته من اليسار، وخطبة بدون حرف الكاف، ومثل هذه الترهات ترسخ في بعض الأذهان أن هذا هو الإبداع.من جهة أخرى ينزع بعض الشعراء إلى رؤى النقاد، فإن وجد ناقدا مولعا بالتوظيف، انساق خلف رؤيته، فيثقل نصوصه بتوظيف كل شيء، والتوظيف أن يستدعي الشاعر مفردات أو معاني (قرآنية أو حديثية أو شعرية أو حكم وأمثال أو أغاني أو أقوال مأثورة) فتجد النص ثقيلا بكثرة الاستدعاءات؛ لأنه تعمد ذلك وانشغل بصنعته فيه، حتى أرهق النص وانتقل ذلك الإرهاق إلى المتلقي، الذي ينصرف غالبا عن هذا (العك)، أما شعراء الغموض الدامس فلهم قراؤهم المخصوصون.وإن مررنا بشعر المواعظ، فحكاية أخرى بمستوييه الفصيح والشعبي، فكل ما فيه مكرور لا جدة فيه، غالبا ما يكرر ما في الكتاب أو في الحديث أو في حكم الحكماء وتجاربهم، ولا موقع للخيال ولا للشعرية في أثنائه إلا بقدر ما يسمح به من الدواء بما لا يجرح الصوم في نهار رمضان، فلو كان الشعر يفطر، لما كان لشعر المواعظ هذا الحكم أبدا، فهو لا يبتعد عن الشعر التعليمي في اعتماده على الوزن والقافية، ولا يحسب له إلا سمو غايته.وختاما: أقول للقارئ وللشاعر، لا تحبس ذاتك في زمن شعري وتجفو غيره، ولا في مدرسة شعرية وتتجنب أخرى، ولا تنغلق على رؤية نقدية أو شاعر بعينه، فالشعر حالة إنسانية حرة، لا تحدها أجناس ولا أزمنة ولا رؤى ولا شخوص، هو حديقة غناء فيها كل أنواع النبات وكل أنواع الطير، ولك أن تتخيل طعوم كل الثمار من أحلاها إلى أمرها، وتباين الألوان، واختلاف أصوات الطير من هديل الحمام إلى نعيق الغراب، فأطلق لذائقتك العنان، وستهتدي.
مشاركة :