تقول إحدى الطرف إن رئيساً لدولة عظمى دعا لمؤتمر صحفي مهم وبدأ حديثه بانه قرر شن حرب سيقتل فيها عشرين مليون انسان، وطبيبا واحدا فاندهش الصحفيون وسأله احدهم ولماذا طبيب واحد؟ فابتسم وقال لمستشاره ألم اقل لك ان احداً لن يهتم لقتل العشرين مليون انسان. قد تكون هذه الطرفة معبرة عن ظاهرة تنتشر بقوة في المجتمعات انهم يتركون الاهم وينشغلون بالامور الصغيرة او الثانوية، ولعل نظريات الاعلام توظف بشكل كبير لانحراف المجتمعات عن الحقائق والامور المهمة لصالح الثانوية. والتوظيف النفسي والعاطفي يجيده القائمون على آلة الاعلام او قادة الرأي بالمجتمعات كي يتسنى لهم اعطاء الفسحة للساسة والقادة لتحقيق اهداف جوهرية بعيدا عن الضغط الشعبي، وقد يكون ذلك من بين الادوات التكتيكية التي تبرر لجوءهم لذلك حتى لو لم يكن مقنعا. لكن الملفت هو السياق العفوي للشعوب عندما يكون هناك حدث عام فتجدهم ينسون التأثير والسبب الكبير بينما يلتفتون لجوانب لا معنى ولا قيمة لها وهو ما يؤدي إلى وجهات متناقضة ومتباعدة تفتقر إلى الوحدة والانسجام،. وهذه الوضعية كانت سائدة في العقود الأولى من القرن الماضي وهي تشتيت الانتباه عن حدث رئيسي إلى آخر ثانوي يتشكل حسب محيط العقول وقواعدها. فقد يحدث ان ينشر كاتب مقالا، او شاعر قصيدة فتجد الكثير يركز إما على نقد شخصية الكاتب او الشاعر وينسون الأهم وهو فكرة المقال او القصيدة، وقد يطرح باحث دراسة اقتصادية تطالب بتغييرات جوهرية بأنظمة تخص قطاعا كالصناعة بحيث تفرض ضرائب كبيرة على ارباح المصانع، ويطالب برسم بمبلغ زهيد يفرض على اللوحة التي يكتب فيها اسم المصنع، فتجد اغلب النقد والتساؤل عن رسوم اللوحة البسيطة ويترك جوهر الدراسة المؤثر جانبا. إن دراسة ظاهرة الاهتمام بالامور الصغيرة الفرعية وترك الكبيرة حيرت علماء الاجتماع والفلسفة حتى وإن كانوا قد اوجدوا تفسيرات متباينة لها، ولم يصل بنا الى فهم اسباب الظاهرة ومعالجتها ما يبقي لآلة التاثير الاعلامية القدرة على تشكيل الاهتمامات فوق كل مستويات الابحاث العلمية، التي درست الظاهرة الا ان اليقين باكثر الاساليب التي تغير من هذا السلوك يبقى بالطرح الواعي ورفع مستوى الثقافة العامة حتى لا تستغل من الاعداء للدول او المجتمعات بمواضيع وقضايا اكثر اهمية وحساسية. ولعل هذا يؤشر إلى أهمية قصوى وهي نوع من أنواع الحروب الاعلامية المنتشرة دائما فإسرائيل الكيان المحتل نجح في تحريف الحقائق بالاعلام الغربي من خلال اظهار رمي شاب او طفل فلسطيني لحجر بوجه جنود عصابة الاحتلال واغفلوا قصف الشعب الفلسطيني بأعتى الاسلحة واظهروا انفسهم ضحايا لحجر، وأعموا بصيرة الغرب عن قتل شعب بأكمله واغتصاب ارضه وممتلكاته وهضم حقوقه من خلال القدرة على اشغال الاعلام بما يريدونه مقابل طمس الحقائق الموجعة والكبرى والظالمة لشعب اصيل مالك لارضه ودولته المحتلة. لقد نجح إعلام اسرائيل وأسس قاعدة صلبة على أرض العالم، وأشغل العالم بالحجر حتى أخفق الرأي العالمي وتجاهل ستة آلاف طفل فلسطيني دخلوا سجون اسرائيل وتعرضوا لأسوأ أنواع التعذيب الجسدي والمعنوي، والاعلام العربي غطى تصريحات المرشح الأميركي رونالد ترامب، والفرنسية مارين لوبان والتصريحات العنصرية ضد المسلمين تغطية كبيرة شارك فيها جميع أطياف المجتمع. ولعلنا لا نخطئ التقدير إذا قلنا إن هذه التصريحات إنما هي خارج نطاق التجربة لايقاع العقول في تأويل هذا التهريج المصطنع، ليحقق مكاسب أخرى أكثر أهمية من رضا العرب والمسلمين أو سخطهم. وخلاصة القول إنهما استحوذا على اهتمام منقطع النظير لما رسماه وفازا بإعلان ودعاية مدفوعة تكاليفها وفواتيرها كاملة، دفع رسومها الاعلام العربي وأشغل الناس بتفاهات ترامب، وغباء لوبان الفرنسية. 514
مشاركة :