لم يفاجئني ما أظهرته الميزانية العامة للمملكة من عجز مالي فعلي متوقع عند إقفال الحسابات الختامية للميزانية للعام المالي (2015) بحدود 367 مليار ريال، ولا حتى العجز المالي المقدر للعام المالي الجديد (2016) بحدود 326 مليار ريال، باعتبار أن هذين العجزين تأثرا بشكل كبير بإصرار الدولة على الاستمرار في الإنفاق التنموي لصالح الوطن والمواطن، رغم انخفاض الإيرادات بشكلٍ ملحوظ نتيجة للتقلبات الحادة التي طالت أسعار النفط العالمية، والتي تراجعت في المتوسط خلال العام 2015 بما يزيد عن 45 في المئة عن معدلها في عام 2014. ولعل الأهم من عجز الميزانية المقدر بالميزانية الجديدة، وكما أشرت بحدود 326 مليار ريال، هو أن الميزانية وعلى الرغم من ذلك العجز، استمرت في الإنفاق السخي على قطاع التعليم والتدريب والقوى العاملة، وعلى قطاع الخدمات الصحية والتنمية الاجتماعية، حيث قد تم تخصيص ما نسبته حوالي 35 في المئة من إجمال نفقات الميزانية، أو ما تساوي قيمته نحو 297 مليار ريال، وبما يزيد عن ما تم تخصيصه من مبالغ للصرف على القطاع الأمني والعسكري (والذي يعد أهم القطاعات)، بحوالي 39 في المئة، حيث قد قدرت الميزانية حجم الإنفاق على القطاع الأمني والعسكري ما قيمته 213 مليار ريال. ولعل الأهم من ذلك العجز المقدر بالميزانية الجديدة أيضاً، وضع الدولة للعديد من الضوابط، التي لا تستهدف بالضرورة التقليل من الإنفاق التنموي، بقدر ما تستهدف الرفع من كفاءة الإنفاق، لاسيما حين النظر إلى الماضي القريب في عمر الزمن، وبالتحديد منذ أن بدأت أسعار النفط في التحسن مع بداية الألفية الجديدة، حيث كانت الدولة تنفق بسخاء ولكن بقليل من التركيز على مدى إنتاجية ورشد ذلك الإنفاق. والأمثلة على سوء الإنفاق الحكومي في الماضي كثيرة وعديدة، من بينها على سبيل المثال لا الحصر، وفقاً لما تشير إليه المعلومات، اعتماد الدولة للأعوام الماضية ما يزيد عن 27000 مشروع تنموي بمختلف مناطق المملكة، بقيمة إجمالية بلغت نحو 4,5 تريليونات ريال، ولكن وللأسف الشديد أن نحو 7000 مشروع حتى الان لم تنفذ وبقيمة تبلغ نحو 2,5 تريليون ريال. ولعله من المؤسف أكثر أن تلك المشروعات كان يرتبط تنفيذها بخطة الدولة التنموية الثامنة وما بعدها، ولكنها وعلى الرغم من ذلك لم تنفذ حتى تاريخه، مما يؤكد أن تنفيذها الآن غير مبرر نظراً لتغير الاحتياجات. ومن بين الأمثلة كذلك على أوجه الإنفاق الحكومي المهدر وغير المقنن والمرشد، تركيز صرف الأجهزة الحكومية لموازناتها بالربع الأخير من كل عام مالي بنسبة قد تتجاوز ببعض الأحيان 30 في المئة من إجمالي الإنفاق للعام المالي بأكمله، مما ينتهي الأمر إما بمشروعات متعثرة أو متأخرة أو أن تنفذ بطريقة وأسلوب متدنٍ من حيث الجودة والنوعية معاً. وبسبب إصرار الحكومة على انتهاج أسلوب وطريقة الإنفاق الكفء والمرشد والمنتج والذي في نفس الوقت لا يضر بأي حال من الأحوال بالمسيرة التنموية التي تعيشها المملكة أو حتى بتلبية احتياجات المواطن ورفاهيته، فقد استحدثت الحكومة عدداً من الضوابط الكفيلة بالارتقاء بمستوى الإنفاق الحكومي، بحيث يصبح الإنفاق أكثر نوعية وجودة ولكنه إصلاحي في نفس الوقت. ومن بين تلك الضوابط على سبيل المثال لا الحصر ما يلي: - إنشاء وحدة مالية في وزارة المالية للعمل على تحديد سقف للميزانية العامة للدولة، يمكن من خلاله وضع إطار متوسط المدى بحدود ثلاث سنوات للتأكد من الالتزام بالصرف في حدود سقف الميزانية تفادياً لما كان يحدث خلال السنوات الماضية بتجاوز سقف الإنفاق بنحو 25-30 في المئة، مما يتسبب في إرباك المالية العامة للدولة. - إنشاء مكتب لإدارة الدين العام بوزارة المالية، يحدد الأسلوب والتوجه الأمثل للاقتراض العام. - رفع كفاءة الإنفاق الرأسمالي والتشغيلي، ما يتطلب مراجعة كافة المشروعات الحكومية للتأكد من جودتها وكفاءة تنفيذها، بما في ذلك الاستخدام الأمثل لأصول الدولة وممتلكاتها وتعزيز استخدامات التقنية في تقديم الخدمات الحكومية، بما في ذلك تطوير وتفعيل آليات الرقابة. - تحديث نظام المشتريات الحكومية بحيث يراعي افضل الممارسات الدولية. - العمل على الحد من تنامي المصروفات الجارية، وخاصة الرواتب والأجور والبدلات وما في حكمها والتي بلغت 450 مليار ريال بنسبة تزيد عن 50 في المئة من المصروفات المعتمدة بالميزانية. - تطوير أهداف وأدوات السياسة المالية بما في ذلك تحديد قواعد تتسق مع معايير الشفافية والرقابة والحوكمة. - اتخاذ مجموعة من السياسات والإجراءات الجادة الرامية إلى تحقيق إصلاحات هيكلية واسعة في الاقتصاد الوطني وتقليل الاعتماد على النفط كمصدر رئيس للدخل. - إعطاء الأولوية للاستثمار في المشروعات والبرامج التنموية التي تخدم المواطن بشكل مباشر كقطاعات التعليم والصحة والخدمات الأمنية والاجتماعية. أخلص للقول، ان النسق والأسلوب التقليدي الذي تعودنا عليه في إدارة المالية العامة للدولة، سواء كان ذلك بجانب الإنفاق أم بجانب الإيرادات، سيشهد تغييراً ملحوظاً إلى الأفضل بإذن الله، ليتواكب ذلك مع المتغيرات والمعطيات بما في ذلك المستجدات الاقتصادية التي تشهدها المملكة العربية السعودية، وبالذات في ظل التراجع الحاد في أسعار النفط العالمية وعدم وضوح الرؤية المستقبلية بالنسبة لاتجاه الأسعار. إن ضبط وتيرة مستوى الإنفاق وليس التقليل منه، بما في ذلك تعزيز مصادر الإيرادات، أصبح ضرورة ملحة تفرضها وكما أشرت ظروف المتغيرات، لا سيما وان هذا الضبط سيعود بشمولية النفع والفائدة على الوطن والمواطن على حدٍ سواء في الحاضر والمستقبل وبالذات على الأجيال القادمة بإذن الله.
مشاركة :