يقول المعجم في تعريف الشك لغوياً بأن الشك: التردد بين المتناقضين بحيث لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر. أو هو حالة نفسية يتردد فيها الشخص بين الإثبات والنفي. ويقود كل تردد بين الإثبات والنفي إلى تعليق الحكم، أو التوقف عن الحكم إلى حين الوصول إلى اليقين. ليس مرادي في هذا المقال الحديث عن الشك في الحياة اليومية المرتبطة بتصديق الآخر أو تكذيبه، أو الشك بالمحبوب الذي يخلق التوتر النفسي. ولعمري بأن قصيدة ثورة الشك للشاعر السعودي عبد الله الفيصل تشير إلى حالة نموذجية لشك المحب بمحبوبه، والعذاب الذي يرافق هذا الشك من قبل المحب. وقد ينتج الشك باليقينيات المألوفة لدى البشر إلى حالة من اللاأدرية مستمرة، وفي الفلسفة هناك نزعة لاأدرية بدأت مع الفيلسوف اليوناني بروتاجوراس ولم تنته مع دافيد هيوم. وفي قصيدة الطلاسم للشاعر المهجري إيليا أبو ماضي نعثر على صورة نموذجية للنزعة اللاأدرية، حيث تنتهي كل مقاطع قصيدته بما تنطوي عليها من أسئلة معرفية وقيمية ووجودية بالقول: لست أدري. ولكن لما كان الشك شكاً باليقين ومقصوده الوصول إلى اليقين فإن الشك، والحال هذه، نزعة عقلية مرادها الوصول إلى يقين لا يرقى إليه الشك. ولدينا في تاريخ الفكر تجربتان مهمتان ومختلفتان في الانتقال من الشك إلى اليقين، وهما تجربة أبي حامد الغزالي، وتجربة الفيلسوف الفرنسي رينه ديكارت. فلقد انطلق الغزالي من أن الشك طريق إلى الحق، فمن لم يشك لا ينظر، ومن لم ينظر لا يبصر، ومن لا يبصر فقد بقي في العمى والضلالة. لكن الغزالي الذي اعتكف في دمشق وعانى من تجربة الشك، لم يتحرر من شكه عن طريق الاستدلال العقلي، بل صرح بأن شكه قد زال لأن الله قذف نوراً في قلبه فتحرر من الشك بهذا النور. أما ديكارت فقد سُمي شكّه بالشك المنهجي، والشك المنهجي ليس سوى الطريق إلى تأكيد الواضح والمتميز بذاته، أي تأكيد حقيقة لا يرقى إليها الشك أبداً، وسمي هذا الشك منهجياً لأنه طريقة في التفكير. فلقد أسس يقين وجوده بقوله: أنا أشك إذاً أن أفكر، أنا أفكر إذاً أنا موجود، أو أنا أكون، وتأسيساً على هذه الحقيقة الواضحة بذاتها بنى ديكارت كل يقينياته. فالأساس الذي يُبنى عليه الشك هو الأساس العقلي الذي بدوره يفضي إلى المعقولية. ففي علم التاريخ لا يمكن تصديق الروايات إلا إذا كانت ذات حظ من المعقولية، وآية ذلك أن هناك ترابطاً بين ما هو واقعي وما هو عقلي، هنا تبرز أهمية الشك للوصول إلى اليقين. ولهذا يجب أن ننظر إلى الشك على أنه منهج معرفي للوصول إلى اليقين، ولا يقوم علم ولا يتطور بما في ذلك علم الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا إلا إذا أفرزت الاكتشافات العلمية شكنا بما كان يقينياً في العلوم الماضية، وهكذا. وفي علم السياسة وبخاصة في العلاقات الدولية، فإن الشك بالخطاب الظاهر يقود إلى البحث عمّا وراء الخطاب، حيث تقدم الوقائع العملية المناقضة للخطاب المشكوك بنواياه، الحقيقة عارية، واليقين الذي لا شك فيه. بل إن أخطاء كثيرة، وكوارث كبرى، قد تتعرض لها هذه الدولة أو تلك قد تنتج عن يقين غير مؤسس على معرفة تفضي إلى الشك. فهذا اليقين الضعيف أو ذاك، قد يفضي إلى استرخاء وعدم رؤية الخطر، وبخاصة أننا في علم السياسة أمام حالة مليئة بالاحتمالات، فاليقين باحتمال واحد يعمي العقل عن توقع الاحتمالات الأخرى. والخلاصة: إن الشك العقلي هو شك علمي بالضرورة، لأنه يقوم على استدلال عقلي وامتحان الواقع والتجربة. فسوء النوايا يختفي خلف حسن النوايا الظاهر، ولهذا فإن الشك بالنوايا الظاهرة يقودنا إلى معرفة احتمالات النوايا الخفية. طباعة Email فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :