النسخة: الورقية - دولي في العام 1822 الذي رحل فيه الشاعر شيللي عن عالمنا وهو، بعد، في عزّ شبابه لم يتجاوز التاسعة والعشرين من عمره، ترك وراءه بين النصوص التي تركها قصيدة لم تكتمل أبداً عنوانها «انتصار الحياة». وهذه القصيدة نشرت للمرة الأولى عام 1824، أي بعد رحيل صاحبها بعامين، من دون أن يتدخل أحد في الطبع في وضع نهاية لها. ومن هنا ظل السؤال الذي تحمله سطورها الأخيرة يقول: «ما هي الحياة؟». أما السؤال الآخر الذي شغل بال الكثر، منذ ذلك الحين، فهو: لو قيّض لشيللي أن يعيش أكثر وأن يكمل قصيدته هذه، بالتالي، هل كان سيكملها مجيباً عن ذلك السؤال الذي طرح في السطر الأخير المكتوب؟ أم أنه كان سيتركها على حالها ناقصة، أي سيبقي سؤاله من دون جواب؟ والحقيقة أن هذا السؤال يستبطن سؤالاً آخر أكثر يقينية: هل كان شيللي ينوي أصلاً أن يختتم القصيدة بالإجابة عن ذلك السؤال؟ ليس من السهل اليوم الإجابة عن كل هذه الأسئلة. ومن هنا، ومهما كان من شأن الفرضيات التي يمكن ايرادها في هذا السياق كجواب، من المؤكد أن الشكل «النهائي» أي «غير المكتمل» للقصيدة يفرض علينا التعامل معها، ومنذ نشرت للمرة الأولى، كما هي واعتبار السؤال الذي تنتهي اليه سؤالاً ينتمي الى الشاعر بامتياز. > من المؤكد ان شيللي، اشتغل على قصيدته هذه طوال الشهور الأخيرة من حياته. بل يمكن القول ترجيحاً أيضاً إنه اشتغل عليها طوال السنوات الأخيرة من تلك الحياة. ذلك أن المناخ العام لقصيدة «انتصار الحياة» والأجواء الوجودية المطروحة فيها، ناهيك بتقنيتها نفسها، يمكن الافتراض أنها تولدت لديه منذ قراءته المبكرة لقصيدة دانتي النهضوية «الكوميديا الإلهية»، تلك القراءة التي جعلت الشاعر الشاب راغباً دائماً في كتابة عمل لا يقلّ ضخامة ونهضوية عن عمل شاعر ايطاليا الأكبر. وهنا في هذا السياق قد يكون علينا أن نلفت الاهتمام، منذ البداية، الى عاملين أساسيين يربطان «انتصار الحياة» بـ «الكوميديا الإلهية»، أولهما البنية التشطيرية التي تتشابه تماماً بين العملين، من ناحية تقسيم القصيدة الى مقاطع يضم كل منها 13 شطراً، وثانيهما وجود المفكر والكاتب الفرنسي روسو، في قصيدة شيللي ليلعب هنا دوراً مشابهاً للدور الذي يلعبه الشاعر اللاتيني فرجيل في قصيدة دانتي: استاذاً، مثالاً أعلى، ودليلاً في التجوال. وليس من المهم طبعاً اذا كانت الجولتان تشبهان بعضهما بعضاً. فالمهم هو وجود هذين الأساسين اللذين يكشفان التطلع الأول لشيللي. > من أصل المخطط الإجمالي الذي كان شيللي يتوخى كتابة قصيدته تبعاً له، نفّذ الشاعر خمسة أجزاء رئيسة، يتألف كل جزء منها من عدد من الأبيات والشطور، علماً أن الجزء الخامس لم يحتوِ إلا على أربعة أبيات تدور كلها من حول السؤال الذي يحمله ذلك الجزء وهو «ما هي الحياة»؟ ومن الواضح هنا أن شيللي توقف في شكل مباغت بعد تدوين هذه الأبيات الأربعة المنتهية بعلامة السؤال. ويتأكد لنا هذا، من خلال سيرة شيللي، كما من خلال المقارنة بين عدد أسطر كل جزء من الأجزاء. فالمقدمة تتألف من 40 سطراً أو بيتاً، والقسم الأول يتألف من 134 بيتاً، بينما يتألف الجزء الثاني من 119 بيتاً، والجزء الثالث من 147 بيتاً. وعلى هذا يكون لدينا في نهاية الأمر ما مجموعه 548 بيتاً أنجز شيللي كتابتها، من عمل من المنطقي القول انه كان يريد له أن يتجاوز هذا الرقم كثيراً. > في المقدمة لدينا الراوي وحكاية أزمته الوجودية غير المروية وكذلك رؤياه التي تشبه حلم اليقظة. فما هي هذه الرؤيا؟ انها صور متتابعة لمكان يبدو غامضاً أول الأمر، لكنه على غموضه يبدو مملوءاً بازدحام بشر يأتون ويذهبون عابرين على غير هدى. انهم هنا وكأنهم ليسوا هنا، لا يبدو عليهم انهم ينتظرون أي شيء... لا يبدو عليهم انهم يعبأون بأي شيء! هل يقلّ عددهم عن الملايين؟ انهم شعوب بأسرها... لكنهم حتى وإن كانوا غير مبالين ينظرون في الوقت نفسه الى عربة مقبلة يقودها دليل كفيف. ومن هذه العربة ينزل عدد من الأشخاص يمارسون رقصة وحشية. وهنا إذ يبدأ الجزء التالي من القصيدة، يدخل جان جاك روسو على الخط يتعرّف إلى الناس ويحذرهم من الجمود. ومن خلال روسو ومن بعده، تتوالى شخصيات تاريخية كبرى: الإسكندر، أفلاطون، بيكون، نابوليون وحكماء وحكام وديماغوجيون... وخصوصاً زعماء من النوع الذي لا يأتي الى السلطة إلا كي يدمّر. > من الواضح في هذا السياق كله أن شيللي، الذي كان خلال تلك الفترة من حياته وفكره، قد بدأ يشكك في جدوى أفكار التنوير النهضوية كلها، طرح شكوكه هذه على شكل أسئلة وأفكار يعبّر عنها دليله ومثله الأعلى روسو. غير أن شيللي حرص هنا على أن يقدّم روسو تحت كاشفي ضوء في الوقت نفسه. فهو من ناحية يعيد اليه الاعتبار، لكنه من ناحية ثانية يرفضه تماماً بصفته مفكراً تأسيسياً من مفكري عصر التنوير. فحتى وإن كانت لروسو هنا، كلمة الفصل، ومضمون السؤال الأخير، فإن شيللي يبدو راغباً في أن يعكس صاحب «العقد الاجتماعي» و «اميل»، كل شكوكه وأسئلته حول ذينك المفكرَين «الفاسدين المفسدين»، فولتير وكانط. وذلك خصوصاً من خلال أسئلة يحدث في أحيان كثيرة أن توضع على شكل حوار مناجاة، بين وجهين لروسو نفسه، أو على شكل أسئلة يطرحها الراوي على روسو، الذي سرعان ما يرفض الأسئلة مبدّياً مفهوم الحياة والطبيعة على مفهوم الفكر والمنطق. صحيح أن السائل يذكّر روسو، بين الحين والآخر، بذلك الظمأ الى المعرفة الذي كان من شيمه... غير أن روسو سرعان ما يؤكد انه فعلاً كان ظمئاً الى المعرفة، لكنه في الوقت نفسه عاش الحياة، ارتعب، أحب، كره، تألم... وظلّ يفعل ذلك كله حتى مات... وهذا ما نبهه تماماً الى ان العثور على المعرفة، ليس كل شيء في الحياة. ولن يكون هو بأي حال الجواب عن السؤال الأساس، سؤال الوجود وسؤال المعرفة أيضاً: ما هي الحياة؟ وفي هذا السياق نفسه سيكون لافتاً أن نرى روسو، ذات لحظة، ليس عاجزاً فقط عن الإجابة عن سؤال الحياة... بل كذلك عن الإجابة عن سؤال الذات. فهو إذ يُسأل: من أنت؟ لا يسعه إلا أن يجيب: لست أدري. أعرف فقط أنه كان ثمة ذات يوم كيان اسمه روسو. أما الآن، فإنه ليس أكثر من «قناع». وعلى هذا النسق تدور غالبية فقرات «الحوار» بين روسو والراوي... هذا الراوي الذي لن يطول بنا الأمر في النهاية، قبل أن ندرك أنه انما يمثل الرغبة البشرية التي قد تكون حققت امتلاءها عبر التنوير، لكنها عجزت في المقابل عن أن تطرح على نفسها ذلك السؤال الجوهري عن الحياة. > قد يكون منطقياً هنا أن نقول إن بيرسي شيللي 1792 - 1822 انما عبّر في هذه القصيدة عن مواقفه التي كانت بدأت تزداد تشكيكاً في التنوير، بل حتى في العقلانية، وذلك في زمن كان ميله الى الشعر قد بدأ يتغلب لديه نهائياً على ميله الى الفكر. ويشهد على هذا بالطبع تطور كتاباته الشعرية والنثرية التي كانت بدأت، انطلاقاً من رومنطيقية ما، تنحو أكثر وأكثر صوب لا عقلانية، لربما كانت هي ما جعله زعيماً غير منازع لطائفة من شعراء النزعة المسماة ما قبل الرافائيلية، وهي نزعة سادت في الشعر كما سادت في الرسم، وكان من أبرز وجوهها روبرت براوننغ وبايرون وسوينبرن. أما بالنسبة الى شيللي نفسه فنعرف أن من أبرز أعماله: «آلاستور، روح العزلة» و «ثورة الإسلام» و «نظرة فلسفية الى الإصلاح» و «برميثوس طليقاً» وبخاصة كتاب «دفاعاً عن الشعر» الذي نشر بعد رحيله بنحو عقدين من الزمن.
مشاركة :