«45 عاماً» بين المسموح ...والممنوع في الحياة

  • 1/1/2016
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

«45 عاماً» هو عنوان أحد الأفلام التي تم عرضها في الدورة الثامنة من بانوراما الفيلم الأوروبي التي أتاحت المنتجة ماريان خوري - منظمة المهرجان - لمئات من الشباب المصري العاشقين والعاشقات للسينما أن يشاهدوه، أن يستمتعوا به، ويتجادلوا حوله، أن يثروا به حياتهم. هذا رغم أن موضوعه قد يبدو بعيداً من أنواع الأفلام التي يمكن أن ينجذبوا إليه. العنوان عادي قد لا يوحي بشيء سوى سريان الزمن الطويل، والزمن دائماً غني بالأحداث، لكن هذا الفيلم ليس فيه سوى حدث واحد أدى إلى البحث الذي تقوم به امرأة في سن التاسعة والستين في أعماق زوج وصل عمره إلى الثامنة والسبعين، كاشفة بذلك عن أشياء في أعماقها هي أيضــاً، إلى تجسيد شخصية اثنين من المثــقفين اليساريين اعتزلا الحياة العملية، ولم يعد لهما سوى حياة مشتركة هادئة يشاركان بعضهما فيها، يقيمان في بيتهما الريفي الكبير الواقع في مقاطعة إنكليزية اسمها نورفوك تظل غارقة غالبية الوقت في ضباب خفيف أوحي تصويره المتقن بخريف عمرهما، وتجمعهما المشاعر التي صنعها زمن المشاركة الطويلة في الحياة، والرغد المادي الذي حققته لهما سنين من العمل المثمر. مرحلة العمر المرتبطة بسنين الشيخوخة صعبة مهما كانت الظروف المحيطة بها سهلة، على الأخص إذا لم يكن للإنسان هدف، أو عمل ينشغل به فيُلح عليه إحساسه بفقدان قيمته وقدراته، بأن حياته تقترب من نهايتها، وفي هذ الفيلم اجتمعت الشيخوخة بزواج طويل ظل مثل الزورق الذي يتهادى على بحيرة هادئة لا أمواج فيها. هذا إلى أن اقتحمتها رسالة آتية من مكان بعيد حملت إلى الزوج جيفري خبراً يُعيده إلى حياته قبل أن يقترن بزوجته كايت. الفيلم مأخوذ من قصة قصيرة للكاتب الإنكليزي دافيد كونستانتين حولها ألكساندر هايج إلى سيناريو ثم تولى إخراجه، وفيه الزوجان يستعدان للاحتفال بعيد زواجهما الخامس والأربعين بعد أن حالت عملية قلب مفتوح أجريت لجيفري بينهما وبين الاحتفال بمرور أربعين سنــة. لذلك كان من المفروض أن يكونا منشغلين بالإعداد لهذ الاحتفال، لكن تصل رسالة من السلطات السويسرية إلى الـــزوج جيفري، أثناء جلسة هــادئة تجمع بينهما في منزلهما. يفتحها جيفري، وبعــد قراءتها يقوم فجـــأة من جلسته ويشعل سيجارة رغـــم أنهما قررا الإقلاع عن التدخين، فتشعر كايت بأن شيئا في الرسالة أثـر فيه تأثيراً غير عادي. تسعى بإصرار هادئ لا يخلو أحياناً من السخرية والشدة حتى يصرح لها بفحوى الرسالة خصوصاً عندما تلاحـظ أن سلوكه تغير فقد خرج من البيـــت في أحد الأيام من دون أن يكون قد أخبرها إلى أين هو ذاهب، وجلس علــــى دكة وحده في حديقة عامة، أنه يقطـــع الحقل المجاور لمنزلهما سيراً على الأقدام وهو مستغرق في التفكير، فيطـــلعها على الرسالة التي تقول إن السلـــطات السوسرية عثرت على جثة المرأة الشابة المدعوة كاتيا سليمة تماماً بعد أن سقطت في تصدع ثلجي أثناء تزحلقها على الجليد ويعترف لها أنه منذ خمسين عاماً قامت بينه وبين كاتيا هذه علاقة عشق قوية. في إحدى الليالي يتسلل من السرير الذي ينام فيه إلى جوارها، ويصعد إلى غرفة صغيرة علوية ليقلب في الأشياء المختزنة فيها. بعدها بأيام تتساءل عما كان يريد أن يعثر عليه. تصعد إلى الغرفة فتكتشف شرائح مصورة تضعها في جهاز للعرض فتفاجأ بشيء يصدمها، بصورة المرأة كاتيا واقفة على جبل مغطى بالثلج وأنها كانت حامل. يسترسل زوجها في الحكي عن علاقته بكاتيا ويعترف بشيء من الفجاجة، وقلة الحيلة الذكورية بأنه قام بينه وبين هذه المرأة عشق كبير إلى درجة أنه كان يشعر بالغيرة عندما تتضاحك مع الدليل الذي كان يقوم بإرشادهما. الآن صار وجه كايت الجميلة والممشوقة القوام رغم سنها يعبر عن بحر من الحزن نحت الملامح، عن صراع مرير دائر في أعماقها، وتتحول إلى جمود قاس وبارد. تتشكك في صدق المشاعر التي ظل يبديها زوجها نحوها فعندما تزوجها كان يحب المرأة الشابة كاتيا بل ما زال مرتبطاً بهذا الحب في أعماقه. كاتيا المرأة الشابة كانت حاملاً، أما هي فلم تنجب منه طوال السنين، لم تملأ بيتها ضحكات الأطفال وثرثرتهم. مرت السنون باردة عجفاء. أصبح الزواج بينها وبين جيفري على شفا هاوية. تصارع لتجتاز الطعنة التي منيت بها. لم يحبها جيفري وإنما أحب غيرها. ربما ما جمع بينهما فقط هي صدمة موت كاتيا التي أصابت جيفري، وصدمة وفاة أمها وقت قرانها به، هو البحث عن سلوى، عن دفء يخفف من قسوة الفقدان، لكن ماذا هي فاعلة؟. خمسة وأربعون عاماً من المشاركة في الحياة بكل ما مرّ بها، رصيد إنساني لا يسهل التخلي عنه في لحظة. تصارع مع نفسها ثم تتخذ قرارها. تطلب من زوجها ألا يتحدث معها بعد اليوم عن كاتيا، عن أي شيء متعلق بها، فيتواعدان على ترك ما مضى. يتضاحكان، ويتعانقان كأن المسألة لا تستحق استمرار المعاناة، ومشاعر المرارة. يبدآن في مواصلة حياتهما معاً بينما كادت أن تنهار، ويبذل جيف العجوز المتهالك محاولة لممارسة الجنس معها فيفشل في مشهد مضحك، ومؤلم في آن. يستأنفان الإعداد لاحتفالهما بالعيد الخامــس والأربعين لزواجهما، وفي يـــوم إقامته نشهد العشرات من الرجال والنساء من المثقفين، والمهنيين، أصدقائهما ومعارفهما وقد ارتدوا الملابس الأنيقة، وفي أيديهم كؤوس الشراب، يتحركون بها في صالة كبــيرة، ويتبادلون الأحاديث الخاطفة قبل أن يجلسوا حول موائد العشاء المستديرة ليستمعوا إلى كلمة من جيفري، كلمة يشير فيها إلى الدور الذي لعبته كايت في إثراء حياته، وفي السعادة التي تخللت سنين زواجهما، ليختتم الفيلم بمشهد لكايت واقفة وحدها، وعلى وجهها ما يعكس المشاعر المتناقضة المستولية عليها، مشاعر نابعة من راحة الحفاظ على علاقة بينهما كانت ذات معان مهمة، ومشاعر بقايا الفجيعة التي أصيبت بها فيطرح الفيلم تساؤلاً مهماً هو إلى أي درجة يمكن كتمان الأسرار الخاصة في ظل الزواج، إلى أي درجــة يمكن الإفصاع عنها، وهل الأفكـــار، والذكريات، والصور الخـــاصة بالماضي السابق للزواج يمكـــن أن تشكل نوعاً من الخيانة؟ كان يمكن ألا يخرج هذا الفيلم عن مجموعة من المناقشات الخطابية الضعيفة العلاقة بالسنيما لولا إبداع الفريق الذي صنعه. تمكن المخرج الإنكليزي أليكساندر هايج من أن يحول القصة القصيرة التي استوحي منها الفيلم إلى سيناريو ثري بالتفاصيل التصويرية والتمثيلية التي تفادى بها أن يصبح حواراً فكرياً ونفسياً. يعود نجاح الفيلم أيضاً إلى تمثيل توم كورتني لدور الزوج لكن أساساً إلى التمثيل الذي قامت به شارلوت رامبلينج في دور الزوجة كايت، إلى تمكنها من جعل وجهها مرآة لمشاعرها وأفكارها المتناقضة، المتغيرة لحظة بعد لحظة لتعبر في ملامحها عما يتصارع في أعماقها. صنعوا منه فناً تصويرياً أصعب ما يكون صنعه لأنه يعكس ليس ما كان يدور خارج شخصية الزوجين لكن ما كان يهتز، ويتصارع، ويتحرك، ويتبلور ويهمس في أعماق كيت وجفري من دوافع، ومشاعر، وأفكار والذي مكن المشاهد من أن يستشفها ليس من الحوار فقط، لكن أساساً من تمثيلهما، من قدرتهما على تجسيد أبسط خلجات النفس. يضاف إلى هذا مقدرة المصور لول كرولي على التقاط ما ظهر على الوجوه في شكل شبه خفي أحياناً وهي مقدرة كانت تحتاج إلى حساسية خاصة لالتقاطه.

مشاركة :