لحظة إستراتيجية عند حافة فرصة تاريخية | عبدالمنعم مصطفى

  • 1/1/2016
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

التاريخ مثل النهر العظيم، يشق طريقه وسط الصخور فيُفتِّت بعضها ليصنع مساره، ويعلو فوق بعضها ليواصل مسيره، ويلف حول بعضها ليستمر تدفّقه، لكنه في كل الأحوال يبلغ غايته هناك عند المصب، لدى كل نهر بهذا المعنى تاريخ تحقق عبر «رؤية إستراتيجية» لذاته، ومسار لبلوغها، ومحطات أو مراحل يقطعها، قبل بلوغ الغاية وتحقيق الهدف. في التاريخ الإنساني محطات ومراحل، قطعتها الإنسانية، عبر مسيرة طويلة، انفردت السيوف والدروع والخيل، برسم خارطتها القديمة، تحت عناوين دينية، أو قيمية في معظم الأحيان.. قليلة جدًّا الحروب التي خاضها الجياع، معظم الحروب شنّها مَن يتطلّعون إلى السيطرة، أو إلى امتلاك أدوات القوة، أو من يخافون أن يداهمهم الجوع ذات ليلة، فيستبقونه بالسعي لامتلاك أسباب التخمة. في سياق طويل، عميق، ممتد، لا يمكن أن تكون الإستراتيجية «لحظة»، أو «ومضة»، فهى رؤية لمستقبل في المدى البعيد، أو المتوسط على أقل تقدير، لكنها هنا، والآن، في اليوم الأول من العام الميلادي الجديد، ٢٠١٦، تبدو مؤهلة بأن تكون «لحظة إستراتيجية» ضد ما هو طبيعي، وضد ما هو مألوف.. لماذا؟! في ظنّي، فإن العالم ربما لم يقبض على مثل تلك «اللحظة الإستراتيجية» منذ قرابة مئة عام، عرف خلالها مراحل أو محطات لما يمكن وصفه بالنظام الدولي، كان يظنّها في كل مرة محطته الأخيرة، لكن الأحداث كانت تصيبه بخيبة الأمل، أو أنها كانت تحمل إلى الطامحين الجدد فيه آمالاً جديدة. وفي اليوم الأول من عام ٢٠١٦، يبدو العالم ممسكًا بـ»لحظة إستراتيجية»، أو نقطة انعطاف لمسيرة التاريخ، تتجمّع عندها تيارات جديدة دافعة للحركة، وتتراجع، أو تنحسر قوى وتيارات أخرى. من يعيشون تلك اللحظة عند منعطف انكسار، أو قرب لحظة انتصار، محظوظون بغير شك، حيث لا تسنح تلك اللحظات في التاريخ كثيرًا، لكن الأقوياء وحدهم -أممًا وشعوبًا- هم مَن يستطيعون، بموجب قانون داروين، اجتياز لحظة التحوّل الإستراتيجي. تاريخيًّا، عرفت الإنسانية ثنائيات استقطاب دولي كثيرة، لعل أبرزها في التاريخ القديم، ثنائية الفرس والروم، وأحدثها ثنائية الروس والأمريكان. الثنائيات، تعني تسليمًا باستحالة الاستفراد الدولي، أو بحالة القطب الواحد، لكن هذا لا يعني حظر المحاولة، فقد حاول الإسكندر الأكبر المقدوني بناء أول نظام دولي أحادي القطب، وكلنا نعرف الآن مآلات هذا النظام، وحاولت الولايات المتحدة بعد قرابة ثلاثين قرنًا، أن تكرر المحاولة، وقال الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون مطلع تسعينيات القرن الماضي: «إن أمريكا يجب أن تقود العالم مئة عام جديدة»، لكن حالة الاستفراد الأمريكي بالعالم لم تدم لأكثر من عقدين، بدأت خلالها التراجع والانحسار، فيما يجتاز العالم اليوم مخاضًا لنظام دولي جديد، يتطلع كثيرون حول العالم أن يكون «متعدد الأقطاب». لحظة استدعاء نظام دولي متعدد الأقطاب، تبدو محمّلة بالآمال والمخاطر معًا، سواء بمن تضعهم حسابات القوة لأول مرة عند مشارف حلم الشراكة في إدارة العالم، أو بين من يخشون الإقصاء، أو من ترتعد فرائصهم خشية السقوط من ذاكرة اللحظة الإستراتيجية. الإمساك بطرف لحظة إستراتيجية عند حافة الفرص، مهمة بالغة التعقيد، تقتضي أولاً امتلاك القدرة على الاستشراف، وهي ليست مرهونة -كما كانت في السابق- بفراسة قائد أو بإلهام زعامة، وإنما باتت رهن بكفاءة مؤسسات استوعبت روح العصر وامتلكت أدواته. الأمم المؤهلة لاستشراف «اللحظة التاريخية» ليست، فحسب من امتلكت الجيوش الجرارة، والثروات المتراكمة، وإنما يمتلك القدرة الأعلى على الاستشراف، مَن يمتلكون المعرفة، ويمتلك المعرفة، مَن يوقرون العقل، ويوقر العقل، من يُؤمنون بالحرية، بحثًا وإبداعًا وتفكيرًا، وقرارًا. العالم يمر بحالة سيولة لم يعرفها قبل مئة عام، سيجتازها القادرون وحدهم على استشراف اللحظة، بأدوات العلم وبمؤسسات القرار الحر. moneammostafa@gmail.com

مشاركة :