كيف تؤثر الأزمة السورية في الأمن القومي العربي؟ هناك طيف عريض من المؤثرات المتولدة من رحم الأزمة السورية، كان لها مجتمعة وقعا شديد على حاضر ومستقبل الأمن القومي العربي. وما سنتوقف عنده في هذه السطور لا يُمثل سوى جانب من هذ المؤثرات، إذ من الصعب حصرها هنا. ولكن دعونا بداية نقدم تعريفاً مبدئياً، اشتقاقياً، للأمن القومي العربي ذاته. بالطبع، نحن هنا بصدد مفهوم إشكالي. وفي الحد الأدنى توليفي ومركب. وقد نكون بصدد نسق أيديولوجي مهيمن معرفياً. كانت السياحة العربية هي الأخرى إحدى ضحايا الأزمة السورية. وقد تضررت بهذه الأزمة على نحو مباشر وغير مباشر، وبصور شتى، لا مجال هنا لحصرها. سورية، التي مثلت تقليدياً موقع القلب في العمل القومي المشترك، خسرتها الأمة اليوم، وبخسارتها فقدت الأمة الكثير من مصالحها الاستراتيجية. ولا بد من العمل الجاد والصادق على إعادة سورية إلى سابق مكانتها التي كانت عليها. لمصلحة السوريين والعرب، بل والأسرة الدولية برمتها. في الأصل، فإن الأمن يعني زوال الخوف، ويعني أيضاً زوال الخطر. لكن ليس هذا هو تعريف الأمن القومي. إن للأمن القومي سياقا جيوسياسيا ممتدا، بموازاة سياقه الاجتماعي، ومضامينه الاستراتيجية والسياسية والثقافية. وقد اعتاد دارسو العلاقات الدولية على تصنيف الأمن وفق مفهومين، اجتماعي وعسكري. وقد ذهبت المدرسة الليبرالية للأخذ بالمفهوم الأول، فيما اعتمدت المدرسة الواقعية المفهوم الثاني. هذا التقسيم الكلاسيكي لم يعد صالحاً، وهو في الأصل يعاني من وهن فلسفي واضح وجلي. الأمن القومي للدول لا يُمكن أن يسند حصراً إلى أحد هذين المفهومين، كما لا يُمكن مقاربته ارتكازاً إلى دمج عشوائي لهما. إنه يُبنى بالضرورة على تراتبية دقيقة، يجري تحديدها استناداً إلى دراسات تفاعلية تحاكي أولويات المستقبل، بقدر استخلاصها دروس التاريخ وحيثيات الواقع. والأمن القومي بهذا المعني ذو مضمون متغيّر أو متحوّل. وبالضرورة متمايز. على صعيد الأمن القومي العربي، يُمثل هذا الأمن أمن الدول العربية مجتمعة، لكنه لا يُعبر عن تجميع كمي أو فيزيائي لأمن هذه الدول، بل يرتكز إلى بُعد تفاعلي عريض على مستوى منظومة العناصر المشكلة والمؤثرة والموجهة للأمن في نُسقه الأحادية والمتعددة. وبعد ذلك، فإن الأمن القومي العربي هو أمن كافة المواطنين العرب، بشتى مضامينه الاجتماعية والثقافية والسياسية والاستراتيجية. وغياب الأمن على مستوى أي من هذه المضامين يعني بالضرورة انتفاءه كفلسفة ومعنى. وفي الحد الأدنى تشظّيه وانهيار توازنه. إن هذه المقدمة الأولية ضرورية لمعرفة علاقة الأزمة السورية بالأمن القومي العربي. لقد تجاوزت هذه الأزمة في تأثيرها كل الأزمات العربية منذ العام 1948، وربما منذ الحرب العالمية الأولى، وأدخلت الأمن القومي العربي في إعادة تعريف تاريخي واسع النطاق. لقد أعادت تعريف التهديدات كماً ومضموناً واتجاهاً. على المستوى الكمي، قفز عالياً حجم التهديدات ونطاقها. لقد تجاوزت التهديدات الجغرافية السورية لترتدي نطاقاً إقليمياً بيناً لا لبس فيه. ثم ما لبثت وأخذت بُعداً أكثر اتساعاً، قد يصعب تعريفه بالدولي، لكنه يلامس هذا التعريف بمعنى من المعاني. بعد سورية ذاتها، أصبح كل من الأردن ولبنان والعراق في عمق مؤثرات الأزمة السورية، على نحو بات يصعب تعريف أمن أي من هذه الدول بمنأى عنها. وبدرجة أقل وضوحاً، باتت كل من مصر وتونس وفلسطين، وأقطار مجلس التعاون لدول الخليج العربية، في مرمى الأزمة السورية. وخارج النطاق العربي، أضحت دول غرب البحر المتوسط، إضافة إلى تركيا وقبرص واليونان، تحت وطأة هذه الأزمة، وإن بدرجات متفاوتة. وبعد ذلك، أضحى النظام الدولي برمته معنياً بمؤثرات الأزمة، وبات من الصعب تعريف أمنه بمعزل عن تطوراتها. وما يُمكن قوله على نحو مجمل عن الأمن الدولي يُمكن اسقاطه بشكل تفصيلي على الأمن القومي العربي. فهذا الأمن بات في مرمى الأزمة السورية، ليس فقط نتيجة لتأثر عدد كبير من الدول العربية بهذه الأزمة على نحو مباشر، بل كذلك لتداخل مؤثراتها بالأمن الاجتماعي العربي، الذي أصبح أحد أكبر ضحاياها، بل أكبرهم على الاطلاق. ومن النطاق إلى المضمون، نكون قد وصلنا إلى جوهر المشكلة ولبها. إن مضمون التهديدات والأخطار النابعة من الأزمة السورية يبقى فريداً من نوعه، ولا مثيل له في تاريخ العرب. إنها منظومة متصلة من التهديدات والأخطار الاجتماعية والسياسية والاستراتيجية. لقد تجلى أول التهديدات في انفجار بركان التطرف الفكري والأيديولوجي، وانتشار صناعته على امتداد الوطن العربي، وضربه ساحات كانت بعيدة عنه ردحاً طويلاً من الزمن. هذا التطرف والغلو باتا يطرقان كل باب، زارعين الشقاق، ودافعين باتجاه الانقسام الأهلي، وتشظي الذاكرة الوطنية، بل وناسفين مبدأ العيش المشترك، ومفهوم الدولة، وأصل فلسفتها الجامعة. وبموازاة ذلك، ظهرت تهديدات وجودية للأمن، تجلت في أعمال العنف التي تقوم بها المجموعات المتطرفة، التي كفّرت الدولة والمجتمع. أو سعت إلى تقسيم المواطنين تقسيماً فوضوياً، بعيداً عن القواسم الدينية الجامعة. ولا تنحصر خطورة أعمال العنف هذه في الضرر المباشر الناجم عنها، بل تمتد لأبعد من ذلك، حيث تزعزع ركائز السلم الاجتماعي، وتطيح بسلم الأولويات الوطنية، وتزيد من درجة الانكشاف القومي. وغير بعيد عن صناعة التطرف، وتبعاتها الأمنية، كان من نتائج الأزمة السورية إثارة الاستقطاب الطائفي والمذهبي، والدفع به دفعاً ممنهجاً من قبل مجموعات الغلو والتطرف، بهدف إثارة الكراهية والتنابذ بين أبناء الأمة الواحدة، وضرب فرص اجتماعهم وتآلفهم. وقد نجحت هذه القوى في تحقيق قسط من أهدافها المشؤومة على جناح الأزمة السورية، وفي سياق حيثياتها الضاغطة. وبالتوازي مع ذلك كله، كان من نتائج الأزمة السورية الدفع باتجاه تشكيل مناخ كثيف من الاستقطاب داخل النظام الإقليمي العربي، لم يُعهد له مثيل على الإطلاق. في هذا التقاطب، تشرذم النظام العربي وانقسم على نفسه، وبات أكثر بُعداً عن الوفاق ووحدة الصف التي ينشدها. وهذا الانقسام على الذات مثّل سبباً آخر، قائماً بذاته، لتردي النظام الإقليمي العربي. إنه متغيّر تابع للمتغيّر الرئيسي، لكنه لا يقل خطورة وضرراً عنه. وفيما هو أبعد من ذلك، تسببت الأزمة السورية في الإطاحة بما كان بالمقدور النظر إليه يوماً على أنه آخر أشكال وصيغ التكامل الاقتصادي العربي. ونقصد به التجارة العربية البينية. هذه التجارة قد أطيح بها اليوم، أو لنقل أطيح بركائزها الأهم، ونعني بها الممرات والطرق الحيوية التي كانت تنهض عليها. كان طريق الشام – الحجاز يُمثل ركيزة التجارة البينية العربية، وتحديداً التجارة السلعية. وهي الأهم في مشروع التكامل الذي كان قائماً حتى وقت قريب. لقد خسر العرب هذا الطريق بعد أن خسروا سلة الغذاء السورية ذاتها. لم يكن أحد في منطقة الخليج، وجوارها، يتوقع حجم الضرر الذي لحق الآن بالمواطن العادي جراء إغلاق هذا الممر التجاري. لقد ارتفعت أسعار بعض السلع إلى خمسة أمثالها، وغاب بعضها الآخر عن الأسواق، لأن استيراده لم يعد راجحاً في الحسابات التجارية. وكما دول الداخل الخليجي، كذلك الحال في الأردن والعراق، وبعض دول شمال أفريقيا العربية. كما أغلقت خطوط التجارة المزدهرة بين سورية والعراق، وفي المقدمة منها خط الوليد – التنف. وبالطبع أيضاً خط القائم – البوكمال. كانت السلع الزراعية السورية تمثل ركيزة السوق العراقي. وينطبق الأمر ذاته، وإن بدرجة أقل، على الصناعات النسيجية، بل وحتى الأدوية. وهذه الأخيرة بالذات كان العراق يشتريها أساساً مخفضة، وبأسعار لا تساوي ربع مثيلاتها في السوق الدولية. كل ذلك خسره العراق بين عشية وضحاها. وكان هذا بحد ذاته أحد مصادر تهديد أمنه القومي المتأتية على جناح الأزمة السورية. الأردن بدوره خسر موقعه كمحطة ترانزيت بين سورية (وتركيا) والخليج. ولم تكن هذه خسارة مادية وحسب، بل جيوسياسية أيضاً. وربما هنا تكمن المعضلة. إن الأردن لن يعود إلى سابق مكانته إلا في اللحظة التي تعود فيه سورية مستقرة وموحدة. ولا ريب أن الأردنيين يتلمسون الآن فداحة التبعات المتأتية من الأزمة السورية. وقد لا يكون ما يسمعه الناس منهم معبراً عن كل الواقع وتفاصيله. وأياً يكن الأمر، ثمة واقع جديد فرض نفسه على التجارة البينية العربية، وضرب ما قد يكون آخر صور التكامل الاقتصادي العربي، وأكثرها التصاقاً بالناس. وليس بعيداً عن ذلك، كانت السياحة العربية هي الأخرى إحدى ضحايا الأزمة السورية. وقد تضررت بهذه الأزمة على نحو مباشر وغير مباشر، وبصور شتى، لا مجال هنا لحصرها. سورية، التي مثلت تقليدياً موقع القلب في العمل القومي المشترك، خسرتها الأمة اليوم، وبخسارتها فقدت الأمة الكثير من مصالحها الاستراتيجية. ولا بد من العمل الجاد والصادق على إعادة سورية إلى سابق مكانتها التي كانت عليها. لمصلحة السوريين والعرب، بل والأسرة الدولية برمتها.
مشاركة :