هناك ثلاث قضايا كبرى تفرض نفسها اليوم على مقاربة الأمن الأوروبي، هي: الأزمة الأوكرانية وتداعياتها المتصلة بالعلاقة مع روسيا، وتعزيز القدرات الدفاعية على مستوى القارة، ومواجهة خطر الإرهاب، المعبر عنه بعودة المقاتلين الأوروبيين من سورية. في الأزمة الأوكرانية، انتهى الأوروبيون إلى القول بأن ما يجري في أوكرانيا يُمثل تحدياً جيوسياسياً، أمنياً وسياسياً، غير مسبوق منذ انتهاء الحرب الباردة، بل لا نظير له، بمعنى من المعاني، حتى في ذروة هذه الحرب. وقد انقسمت أوروبا بين فريقين، قال الأول بدعم السلطات الأوكرانية عسكرياً، لمواجهة دعاة الاستقلال في شرق وجنوب شرق البلاد، والتصدي، في الوقت ذاته، "للتهديد" الروسي. وقال الفريق الثاني أن لا خيار منطقي لمقاربة الأزمة سوى خيار الدبلوماسية، وإن طال أمده. ورأى هذا الفريق أن تسليح السلطات الأوكرانية، وزيادة المضمون العسكري للنزاع، لن يقود سوى إلى مزيد من الضحايا المدنيين في مناطق الصراع، سواء تلك الواقعة تحت سيطرة الحكومة أو تلك التي باتت خاضعة لقوات المعارضة. وقد خرجت تحليلات كثيرة، من مراكز بحث أوروبية كبرى، دعت في مجملها إلى استبعاد منطق التسليح وزيادة المضمون العسكري للنزاع، واعتبرته منطقاً كارثياً على أوروبا بأكملها. ثمة اعتقاد اليوم بأن الغرب سوف يُسرّع في ضم أوكرانيا إلى مؤسساته المختلفة، وقد يترجم ذلك بداية في حصولها على عضوية حلف الناتو، وتجاوز العقبات القانونية والتقنية التي حالت دون هذا الأمر. والأهم من ذلك، تجاوز مخاوف روسيا وهواجسها. وبالطبع، متى حدث وانضمت أوكرانيا فعلاً للناتو فسنكون قد دخلنا على نحو نهائي المرحلة الجديدة من الحرب الباردة الدولية.. في هذا الوقت، ظهر إلى السطح خلاف أوروبي أميركي من قضية التسليح وزيادة المضمون العسكري للنزاع، الأمر الذي دفع بالرئيس باراك أوباما للإعلان بأن ليس هناك من خطط راهنة لتسليح سلطات أوكرانيا، وإن الولايات المتحدة تؤكد على أولوية الحل الدبلوماسي، وأنها ستبذل قصارى جهدها في الاتجاه. من جهة أخرى، فرضت الأزمة الأوكرانية نفسها على بيئة العلاقات الأوروبية الروسية، والغربية الروسية عامة، الأمر الذي أسس لمناخ حرب باردة جديدة، فعلية أو وشيكة. وفي سياق هذا المناخ، أو في ضوئه، جاء إعلان أوكرانيا تخليها عن سياسة الحياد، التي التزمت بها منذ استقلالها عن الاتحاد السوفياتي عام 1991. ومن شأن هذا القرار أن يُمهد الطريق أمام كييف للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو). ولقد نص قانون إنهاء الحياد، الذي صادق عليه البرلمان الأوكراني، في 23 كانون الأول ديسمبر 2014، على "التخلي عن وضع خارج الأحلاف، والعودة للنهج الرامي إلى التقارب مع الناتو، ما سيعزز مواقع أوكرانيا في مجال الدفاع والأمن". وتتفاعل قضية انهاء الحياد مع الأزمة الداخلية التي ما برحت ملتهبة، حيث خرجت مناطق كبيرة ورئيسية من سلطة كييف. كذلك، يرمي هذا التطوّر بظلاله على العلاقات الروسية الأوكرانية، ويفاقم من مستوى الأزمة الراهنة في علاقات موسكو بالقوى الأطلسية. وفي الأصل، لم يتخل الغرب عن رهانه على أوكرانيا أطلسية، تربط شرق أوروبا بالقوقاز وآسيا الوسطى، وتكون همزة وصل بين البحر الأسود وبحر قزوين، وممراً للنفط والغاز القادم من الشرق. وتقع أوكرانيا في مفترق الطرق لأوروبا، وتتخذ موقعاً هاماً على أعتاب الدولة الروسية. ويتأثر مستقبلها بمسار العلاقة بين روسيا والغرب. وثمة اعتقاد اليوم بأن الغرب سوف يُسرّع في ضم أوكرانيا إلى مؤسساته المختلفة، وقد يترجم ذلك بداية في حصولها على عضوية حلف الناتو، وتجاوز العقبات القانونية والتقنية التي حالت دون هذا الأمر. والأهم من ذلك، تجاوز مخاوف روسيا وهواجسها. وبالطبع، متى حدث وانضمت أوكرانيا فعلاً للناتو فسنكون قد دخلنا على نحو نهائي المرحلة الجديدة من الحرب الباردة الدولية. القضية الثانية التي تفرض نفسها اليوم على بيئة الأمن الأوروبي هي مسألة الدفاع في شقه العسكري، حيث قرر حلف الناتو زيادة حضوره الدفاعي، البشري واللوجستي، في شرق القارة، انسجاماً مع المناخ الجديد في العلاقات الروسية الأطلسية، الذي بات مأزوماً على نحو صريح، وأضحى يفرض نفسه على المقاربات السياسية والأمنية لدول الشرق الأوروبي، وخاصة دول البلطيق. وأثار هذا الأمر مجدداً نقاشاً قديماً في أوروبا ذو صلة بإعداد الخيارات اللازمة للتعامل مع الأزمات الناشبة. وخلال الفترة بين 2001 – 2008، تراجع إجمالي الإنفاق العسكري الأوروبي بنسبة 1.9%. وتراجع الإنفاق على المشتريات الدفاعية بنسبة 10%، وعلى البحث العلمي الدفاعي بنسبة 14%. وصدرت تحذيرات عديدة في الولايات المتحدة من أن التراجع المستمر في الإنفاق الدفاعي الأوروبي من شأنه أن يحول دون نهوض أوروبا بأي دور مؤثر في قضايا الأمن الإقليمي أو الدولي. ووفقاً للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، فإن 2.7% فقط من عناصر جيوش دول الاتحاد الأوروبي، البالغ عددها حوالي مليوني جندي، مستعدون لتحقيق المهمة المطروحة عليهم. ورأى تقرير للمعهد إن هذه النسبة يمثلها 79 ألف جندي، شاركوا في العمليات العسكرية وعمليات دعم السلام، في الأعوام القليلة الماضية، وإن سائر الجنود الآخرين المنتسبين إلى جيوش دول الاتحاد الأوروبي ليسوا متأهبين للقتال. وخلص التقرير إلى القول إنه ليس بمقدور القوات المسلحة لدول الاتحاد الأوروبي، مع استثناءات قليلة، تنفيذ مهام تطرحها عليها الحكومات. ولا يرى التقرير، والحالة هذه، ما يمهد لإنشاء جيش أوروبي مشترك، ما لم تتزايد الجاهزية القتالية لجيوش الدول الأوروبية. وتنبع خصوصية نقاشات الأمن الأوربي كذلك، من التحوّل الذي طرأ على الاستراتيجية الدفاعية الأميركية. والذي تمثل في قرار الولايات المتحدة خفض وجودها العسكري في أوروبا، وإعادة تفعيل حضورها في آسيا. وكانت الولايات المتحدة قد بدأت في كانون الثاني يناير 2012 خططاً تقضي بسحب لواءين مقاتلين من جيشها في ألمانيا، مقلصة حجم قواتها بحوالي سبعة آلاف جندي. وأثيرت من جهة أخرى، مشكلات التنسيق الدفاعي على مستوى الاتحاد الأوروبي. فالقيادة العسكرية في أوروبا يتم تكوينها في 27 أكاديمية عسكرية، تتبع أركان جيوش مختلفة. وتواجه أوروبا صعوبات في إيجاد صيغة مشتركة لإنشاء تعاون عسكري. وفي سياق تحديات الدفاع أيضاً، هناك التعثر الحاصل في تطبيق معاهدة الحد من الأسلحة التقليدية في أوروبا، التي قررت روسيا تجميد عضويتها فيها منذ كانون الأول ديسمبر عام 2007. ورأت في الفترة الأخيرة أنها لم تعد صالحة. وكانت هذه المعاهدة قد وقعت من قبل حلفي الناتو ووارسو في 19 تشرين الثاني نوفمبر1990، متعهدين خفض عدد الدبابات والمدرعات والمدافع، والطائرات القتالية، في المنطقة الممتدة من المحيط الأطلسي إلى سلسلة جبال الأورال. وفي قمة اسطنبول التي عقدت في 17 تشرين الثاني نوفمبر من العام 1999 اتفقت أطراف المعاهدة على تعديلها، حتى تقيد تسليح الدول بعينها بدلاً من تكتلي الدول (الحلفين)، لأن أحدهما، وهو حلف وارسو، لم يعد له وجود. القضية الثالثة التي تفرض نفسها اليوم قوياً على الأمن الأوروبي هي ما يُعرف بقضية العائدين من سورية. وبالنسبة للأوروبيين، أصبحت هناك حاجة كبيرة للتعامل مع قضايا الإرهاب والتطرف، بعد اعتداءات 11 أيلول سبتمبر 2001 في واشنطن ونيويورك، وطرحت قضايا من قبيل كيفية التعامل مع الخلايا النائمة، ومنع تجنيد إرهابيين، وسد منابع التمويل عن المجموعات المتطرفة، وتطوير ثقافة اندماجية في عموم المجتمعات الأوروبية. وتحتوي الأدبيات الأكاديمية الأوروبية الآن على العديد من الاستعراضات النقدية لتنفيذ سياسات مكافحة الإرهاب في الاتحاد الأوروبي في الفترة اللاحقة لاعتداءات الحادي عشر من أيلول سبتمبر. ومن المتوقع أن يتم الإعلان عن برنامج أوروبي جديد لمكافحة الإرهاب. ومن المرجح أن يقع هذا البرنامج في سياق الاستراتيجية الأمنية الداخلية للاتحاد الأوروبي، التي اعتمدت لأول مرة في العام 2010. وهناك اليوم العديد من العناصر قيد المناقشة، منها زيادة التعاون بين يوروبول ووكالات أوروبية أخرى، تطوير تبادل المعلومات مع هيئات إنفاذ القانون، تعزيز تبادل المعلومات بشأن الأسلحة النارية غير القانونية، تحسين مكافحة تمويل الإرهاب، وتعزيز التعاون في مجال التهديدات الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية والنووية. وفي العام 2014، اتخذ الاتحاد الأوروبي سلسلة من القرارات التي كان من شأنها تحديث استراتيجيته الخاصة بمواجهة التطرف وتجنيد الإرهابيين. كما وضعت المغرب وهولندا مقترحات بشأن أفضل السبل لمواجهة المقاتلين الأجانب، في إطار المنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب (GCTF)، وكان ذلك تحت أربعة عناوين هي: من التطرف إلى التطرف العنيف، التوظيف والتسهيلات، السفر والقتال، والعودة وإعادة الإدماج. إن القناعة السائدة اليوم لدى الأوروبيين هي أن الأزمة السورية باتت مصدر تهديد كبير للأمن الأوروبي، وإن استمرار تدفق المقاتلين إلى الأراضي السورية يفاقم من هذا الخطر، ويعزز مفاعيله السالبة والمدمرة. وهناك الآن أوراق بحثية كثيرة صدرت في دول أوروبية مختلفة، بينها السويد وبريطانيا، تحذر من تعزيز المضمون العسكري للأزمة السورية. وتطالب بالبحث عن تسوية سياسية شاملة، وتشجيع المبادرات المحلية في هذا الاتجاه، بما في ذلك المصالحات المحلية المناطقية، باعتبارها خطوات عملية على طريق التسوية الكاملة للأزمة. ويبدو أن أوروبا الرسمية قد انتهت هي الأخرى قريباً من هذا المنطق العلمي. كما بعث الأوروبيون ببعض مسؤوليهم الأمنيين إلى المنطقة بحثاً عن تنسيق محتمل في مواجهة خطر المقاتلين العائدين من سورية، الذين اكتسبوا على مدى سنوات خبرات كبيرة ومتزايدة في القتال، واعداد المتفجرات والسيارات المفخخة، واقتحام المنشآت العامة، وتشييد الأنفاق، وأمور عسكرية وأمنية أخرى، تشكل في مجملها خطراً كبيراً وداهماً على الأمن الأوروبي.
مشاركة :