النقد الأدبي والفلسفة.. الحدود الوهمية والعلوم الحقيقية

  • 1/2/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

دأبت الدراسات على التمييز بين الحقول المعرفية، تبعا أن لكل حقل أسسه النظرية والمنهجية، ومفاهيمه ومقصدياته، بعد أن كانت هذه الحقول في حضن الأم؛ الفلسفة. لكن بفعل سعي العلوم إلى البحث عن هويتها، والتدقيق في مجال اشتغالها، عملت على قطع الحبل السري مع الأصل، فاقتصر دور الفلسفة على تتبع خطوات هؤلاء الأبناء الغفل، وملاحقتهم ومساءلتهم عن مسار هذه الخطوات وتمحيص النتائج التي يتوصلون إليها، بغية الحكم عليها وتقويمها. حيث أصبحت تنهض بمهمة «إبستيمولوجية». إن هذا الانفصال لم يشكل قطيعة نهائية مع هذه العلوم، بقدر ما بقي الارتباط قائما بالشكل الذي يضفي عليها مشروعية علمية، بهدف تأسيس فكر فلسفي يرتكز إلى أسس عقلانية بالمفهوم الحداثي. إلا أن الوهم السائد في حقل الدراسات الأكاديمية، هو محاولة عزل كل علم على حدة، وغلق الأبواب على باقي العلوم الأخرى، وإقامة حدود وهمية بدعوى أن كل حقل معرفي أو تخصص علمي له نظرته التي يمتاح منها أسس تفكيره، ومسار بناء معرفته الخاصة، خارج الجدل القائم بين روافد علمية مسهمة في بناء صرح المعرفة التي تعد جوهر الحضارة في التاريخ الإنساني. إن العلم مهما كان دقيقا؛ مثل «العلوم الحقة»، ويستند إلى أسس علمية، فهو في حاجة إلى العلوم الإنسانية، وإن كانت أقل دقة منه وأقل علمية. والعكس صحيح تماما، بشكل لا يدعو إلى الاختلاف غير القائم على البينة والدليل. ويتعمق هذا الوهم؛ بحصره في شعبة بعينها، باعتبارها منفصلة الجذور والفروع عن علوم أخرى، حيث لا يمكن أن نتصور أن أي تطور يمكن أن يحققه، مهما كان بسيطا خارج التفاعل والتلاقح مع علوم أخرى، في نطاق ما نسميه بـ«تكامل العلوم». وبذلك، فالسؤال المطروح هنا، هو ما علاقة النقد الأدبي بالفلسفة؟ هل كل واحد له هويته المستقلة عن الآخر تصل إلى حد الطلاق البائن؟ أم هل الأمر يتعدى الحدود إلى التشاكل بعيدا عن كل اختلاف قائم أساسه على وهم الدرس الأكاديمي؟ *** لا يقف مفهوم الفلسفة عند حدود مفهوم الشعبة، بل هي أم العلوم، ومقترنة بها، عن طريق «السؤال»، الذي به تبحث عن العلل الأولى للظواهر الكونية والوجودية والإنسانية، فهي تتساءل عن أصل الأشياء. فمدرسة «أفلاطون» التي كتب عليها «لا يدخلها إلا رياضي»، يمكث فيها المتعلم خمس سنوات لا ينبس ببنت شفة، حتى يكون قادرا أولا على بلورة السؤال. لكن هل السؤال فعلا حكر على الفلسفة وحدها، أم هل هو فعل علمي، يعمد إليه في أي مجال قادر على مواجهة الإنسان والظواهر التي ترتبط به، عبر مساره التاريخي والثقافي والحضاري. وحتى مفهوم الفلسفة التي تعني «محبة الحكمة» والفيلسوف «المحب للحكمة»، هل الحكمة تقتصر على الفلسفة لوحدها، أم هل ترتبط بالعلم مجملا؟ إن الفلسفة، تبعا لهذا، لا تقابل معارف أخرى، أو تنعزل عنها، بل تتواجد في كل معرفة معرفة، وفي كل علم علم، باعتبارها تؤسس لمبادئ التفكير العقلاني، انطلاقا من «أرسطو»، منذ القرن الرابع قبل الميلاد، الذي عمد في الوهلة الأولى إلى «علم المنطق»، وصولا إلى خوضه في عالم «الميتافيزيقا». إن هذه الفلسفة «الأرسطية» هي التي سيطرت على التفكير الأوروبي إلى حدود القرن السابع عشر الميلادي؛ من قبل الكنيسة التي بسطت سيطرتها. وعلى إثر هذه السيطرة، قتل «غاليليو» الذي قال «ورغم ذلك فهي تدور». لكن مع «ديكارت»، تم الالتفات إلى «ملكة العقل»، باعتبارها الأساس الذي يبين طبيعة التفكير في الأشياء، وإن لم يخض في مجالي «الأخلاق» و«السياسة»، فقد أسس لتفكير عقلاني. فالعقل نور طبيعي، أساس المعرفة وتقدم العلوم، وأساس الاختلاف بين البشر من حيث طريقة الاستخدام. وهنا نجد تطابقا بين العقل والفطرة عند «ديكارت». ومفهوم الزمن دال أكبر على درجة الاختلاف في الطبيعة العقلية التي يتمتع بها الإنسان. إن «ديكارت» سعى إلى انتقاد «الفلسفة الأرسطية» التي جنت على أمم بأكملها. مؤسسا للحداثة العقلانية بكل تجلياتها في مجموع المعارف والحقول، اعتمادا على «الشك المنهجي». إن المسألة لا تقتصر على الفلسفة فحسب، فكما قال «ميشالفوكو»: «في كل عالم علم يرقد فيلسوف». وبذلك فإذا كانت الفلسفة تسعى إلى اكتشاف الحقيقة، من خلال التساؤل، والبحث عن العلل الأولى، فالنقد كذلك، بصيغة من الصيغ، فلسفة تسعى إلى وضع العمل الأدبي في مجال البحث والتعليل. *** إن النقد فلسفة، ما دام يستند إلى السؤال، فالفلسفة تتساءل بغية القبض عن العلل الأولى، وأصل الموجودات. لكن صورة العلة ستتغير سواء مع «ديكارت» أو «الديكارتية»، التي أصبحت ترتبط بـ«الأنا» الديكارتية انطلاقا من قوله «أنا أفكر إذن أنا موجود»، فبقدر الشك تتجلى حقيقة الوجود، وبقدر استيعاب هذا الوجود يتطور الشك، اعتمادا على الاستخدام المختلف للعقل، فهو العلة الأولى التي تستلزم الوضوح والبداهة، تحقيقا للوجود اللا مفكر فيه. وإذا كانت العلة المحققة لجوهر الأشياء متعددة، فالتفكير العقلاني يتجسد في «الأنا»، في صورتها الموسعة، المكتسبة للمعرفة انطلاقا من تجربة الحواس، والمطلعة على المعارف، والمرتبطة بالعادات والتقاليد، وثقافة المجتمع. إنها «الأنا» التي تحقق درجة تقدم ما بمدى قدرتها على التفلسف والتساؤل وكشف حقيقة اللا يقين، ولا يقين الحقيقة. وإذا كانت المعرفة، في كثير من الأحيان هي اللا مفكر فيه، فإن الفلسفة هي سعي لتحقيق هذه المعرفة، في ارتباطها بالفكر،المجسد الوحيد للوجود، غير الخاضع بعد لشك مطلق. *** ينطلق «ميشال فوكو» في مقدمة كتابه «Naissance de la clinique» من حالة الطب النفسي، وطريقة العلاج التي كان يعمد إليها «POMME»، حيث كان يلغي شخصية المريض، ويعطي العلاج الذي يراه هو مناسبا. كأن ذات الطبيب المعالج هي المالكة للمعرفة، لأنها كانت تعيش في فترة تطغى عليها الأسطورة، والحلول غير الخاضعة للعقل والأسس العلمية. بينما «BAYLE» عدل عن هذه الطريقة، وأصبح المريض هو المحدد لطريقة العلاج، فهو الذي يوفر الموضوع والمادة التي يشتغل عليها الطبيب من خلال وصفه للأعراض التي تنتابه أثناء النوبات المرضية. إن الحالة الأولى؛ تعبر عن مدى الانفصال، بشكل أو بآخر، بين الكلمات والأشياء، بينما الحالة الثانية تعبير عن مدى الاتصال بينهما. وهذا منطلق فلسفي في الحديث عن النقد في علاقته باللغة، على اعتبار أن أزمة اللغة هنا، ترتبط بطريقة الرؤية المختلفة عن طريقة القول. والنقد يسعى بدوره، من خلال هذا، إلى استنطاق المادة الأدبية، وتقريب الهوة بين ما تعبر عنه اللغة، وما هو مضمر بين سطورها،في محاولة إنطاق الصمت، وترجمة المسكوت عنه. فالكلام يتخلله الصمت في مستويات اللغة. والنقد بدوره يسعى إلى التعليق عن هذا الزواج الكاثوليكي بين الكلام والأشياء، ما قيل وما ينبغي أن يقال. إن الربط بين الذات والموضوع الذي سعى إليه الطب النفسي، في نطاق الانتقال من عالم الأسطورة إلى عالم العلم القائم على التجربة، هو المنحى نفسه الذي يسير في هذا النقد، في نطاق علاقة اللغة باللا مفكر فيه. إن العلاقة الشائكة بين التصوير الذهني للأشياء واللغة، يجعل الصور الذهنية المفكر فيها بعيدة كل البعد عن اللغة في نطاق اللا مفكر فيه، مما أدى إلى نوع من عدم التطابق بينهما. وهذا هو مسعى النقد الآن في دراسته للنصوص الأدبية والشعرية. وهو مسعى فلسفي يتلبس بلبوس نقدي فقط.

مشاركة :