«هدايا الموت» المتبادلة لا تزال تتدفق بين العرب والاسرائيليين

  • 1/2/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

بعد انقضاء أكثر من ثلاثة عقود على سلام تعاقدي بين مصر وإسرائيل، وأكثر من عقدين على معاهدة وادي عربة بين الأردن والدولة العبرية، يبدو السلام العربي- الإسرائيلي مصطلحاً يتداوله المسؤولون، وليس مبدأً قابلاً لأن يعيشه الناس في منطقتنا. وإذا كان وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر اتهم إسرائيل، في العام 1973 بأنها «لا تملك سياسة خارجية، بل تملك سياسة داخلية فقط»، فهذا القول ينطبق، في ما يبدو، على الدول العربية أيضاً، في ما يتصل بالصراع مع إسرائيل. والسبب الذي نقترحه لتفسير هذا التماثل بين طرفي الصراع هو أن هيمنة الخطاب الأسطوري على أمة ما قد تعلو إلى درجة تجعل من الصعب عليها أن تنفلت من أسر الحوارات الداخلية إلى حوار مع الآخر، الذي قد يبدو بقاؤه مستبعداً، شرطاً لاستمرار حوار مع الذات، نستغني به عن حوارنا مع الآخر، وإن مسَّت الحاجة إليه. وتتمثل هذه الحالة في منطوق صدر عن وزير الثقافة المصري حلمي النمنم (فضائية «النهار»/29 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي) وفي ردود الفعل عليه. وأخذ مثال من مصر لا يعني أننا إزاء حالة مصرية، بل هي حالة عربية - إسرائيلية. قال النمنم: «لم يفعل موشيه دايان بمصر ما فعلته عصابة المرشد». واعتبر المعلق محمد المنشاوي («الشروق» القاهرية/ 4 كانون الأول/ ديسمبر) أن منطوق الوزير يندرج ضمن «مناسبات مهمة» يراها هو «واقعاً جديداً» يتخلق عبر تطورات سياسية واقتصادية تتفاعل بها مصر سلمياً مع إسرائيل. وفي مقابل «الواقع» الرسمي «الجديد»، يشير المنشاوي إلى نتائج استطلاع للرأي تشير إلى غالبية من المصريين ترى إسرائيل دولة «معادية»، أو «معادية جداً»، وأقلية تراها «محايدة» أو «صديقة». كيف يكون المعاهد عدواً؟ كيف تكون إسرائيل «صديقة» أو حتى «محايدة»؟ لا يقول لنا المنشاوي الذي يكتفي بسؤال الوزير: لماذا تبيِّض وجه إسرائيل؟ نعود إلى حلمي النمنم لنشير إلى ارتباط محتمل بين اختياره الجنرال موشيه دايان رمزاً للعدوانية الإسرائيلية وبين تألق دايان (لص آثار سيناء) في حرب 1967 وسقوطه النهائي بعد حرب 1973. لكن هناك سبباً آخر، ففي 1969 توقّع دايان أن يعلن شيوخ قبائل سيناء الاستقلال عن مصر أمام مراسلي الإعلام الدولي، لكنهم فاجأوا الجميع بقولهم: من يريد الحديث عن وضع سيناء فليس أمامه سوى التوجه إلى القاهرة والحديث إلى عبدالناصر. هذا تاريخ موثَّق، فعند أي محطة من محطاته الواقعة بين 1967 و1979 يقف النمنم؟ لا نعرف. لكن من المؤكد أنه يقف قبل اللحظة الراهنة بعقود، وربما عند محطة «عزَّام باشا» التي سنعود للحديث عنها. وينطوي منطوق النمنم على بعد لا يقل أهمية عن المفارقة الزمنية. وتجد البُعدَ ذاته واضحاً عند أهم منتقديه الأستاذ في جامعة جورج تاون خليل العناني: عند النمنم وعناني تتقدم علاقة الدولة المصرية بالإخوان المسلمين على علاقتها بإسرائيل. يتقدم الشأن الداخلي على الخارجي. وهذا مفهوم، فالدولة المصرية (وبقية الدول العربية) الواقعة في أسر شعبويتها الأسطورية المنشأ، لا تميل إلى الكشف عن محاولاتها الدائبة للبحث عن سلام، على رغم التزامها الدائم وإلى أبعد حدود الممكن، مقتضيات المصلحة الوطنية والعربية. وهذا عزَّز موقف الخائفين من السلام في إسرائيل وأبقى الثقافة السياسية العربية عاجزة عن مواكبة التحولات. وفي المقابل؛ تبدو إسرائيل غارقة في لعبة تقوم على مراوحة بين التفاوض من أجل التفاوض وبين تجميد التفاوض بحجة غياب الشريك الفلسطيني المناسب. لا تكذب إسرائيل وهي تتحدث عن هذا الغياب لأن بطشها الأخرق يغيّب أو يضعف كل فلسطيني مرشح لشراكة فاعلة مع الإسرائيليين. ألم يقل الوزير الأميركي جون كيري (مؤسسة بروكينغز/ 5 كانون الأول) إنه تبيَّن في حديث رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، في آخر لقاء معه، يأساً غير مسبوق؟ المراوحة الإسرائيلية تلكؤ على مسارات السلام، يتسبب بنزيف للدماء والكرامات والمصالح. وعلى رغم الجذور الأسطورية العميقة – التي تلون مرارات تاريخية أوروبية المنشأ- لخوف يهودي من الآخر (الأوروبي الذي جرى تعريبه عبر انتهازية لا ترعوي)، فقد تجد أساساً نظرياً عصرياً لمماطلات إسرائيل في طروحات الكاتب المحافظ إيلي خدوري (توفي في 1992)، وهو يهودي عراقي عمل أستاذاً للعلوم السياسية في جامعة لندن، الذي رفض البحث الأميركي الدؤوب عن تسوية نهائية للصراع العربي– الإسرائيلي بقوله إن «الرجال العمليين يكتفون بدرء الشرور الحالّة وصون المصالح القائمة». وفي إطار هذا المفهوم في وسعك أن تفهم تحذيرات كيسنجر (مؤسس مسيرة السلام المتعثرة الراهنة) من مخاطر البحث عن اختراقات كبرى وإن اشتغل في بعض الأحيان على إحراز قدر من التقدُّم، وقول جورج شولتز «لا وجود لتسويات، لا في واشنطن ولا في الشرق الأدنى». مال كيسنجر وشولتز ومن تولى وزارة الخارجية الأميركية بعدهما إلى «إدارة» الصراع بدلاً من العمل على تجاوزه، وتجنبوا الحديث عن نهاية للصراع بين العرب والإسرائيليين، باعتبار أن منطقتنا هي «حي الزعران في المدينة»، بحسب تعبير خدوري الذي نصح بالاكتفاء بـ«إدارة» المشكلات التي يثيرها سكان هذا الحي من عرب ويهود وباحتواء شرورهم، مخافة إنعاش آمال يستحيل تحقيقها، ما قد يعمق مشاعر الخيبة بين أهل الحي المزعجين ويدفعهم إلى تخليق متاعب جديدة في مناطق أخرى. وإذا اعتمدنا الحكاية الصهيونية حول لقاء جمع قادة صهاينة إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية عبدالرحمن عزَّام باشا في فندق «سافوي» اللندني في خريف 1947، فسوف نجد ما يعده الصهاينة أصلاً عربياً مبكراً للالتفات عن الحل الوسط التاريخي. في ذلك اللقاء رفض عزام باشا، الذي استقبل الصهاينة بمودة ظاهرة، مقترحاتهم بحل وسط تاريخي، وإن لم يستبعد أن تكون المقترحات «عقلانية ومنطقية». وقال لهم إن «مصائر الأمم لا يقررها المنطق العقلاني. الأمم لا تتنازل أبداً، الأمم تحارب». لم يظهر الباشا كراهية لليهود الذين لم يشر إليهم سوى بـ»أبناء العم». لمس فيه محدثوه الصهاينة حزناً نابعاً من الشعور بما اعتبر دايفيد هوروفيتس الذي أورد تفاصيل اللقاء في كتابه «دولة تتخلق» (1953) أنه «قدرية عمياء، تستعصي على السيطرة، كأنها الريح». وقد يبدو عزام باشا (والعرب من ورائه، وفق الدعاية الصهيونية التي خاطبت الغرب، حتى قبل أن تخاطبنا أو تخاطب مواطنيها) تجسيداً للشقيقين اللذين قبلا هديتي الموت: العصا والحجر، في حكاية «الأشقاء الثلاثة» (من القرن الخامس عشر في إنكلترا)، ظانيْن أنهما يهزمانه بهما، فقضيا مبكريْن. شقيقهما الثالث نجا لأنه اختار عباءة التخفي. فهل يتخفى عنف الخائفين لدى الصهاينة، وراء حكايا من النوع الذي يسرده هوروفيتس، أم أن هذه هي حقيقة ما جرى؟ قد يكون مفهوم جاك دريدا لـ»هدية الموت» (1996) في السرديتين الإبراهيميتين، العبرانية والعربية (وليس في النصوص المقدسة) أقدر على تفسير موقف عزام باشا وموقف الصهاينة الذين استثمروه. فالباشا المندفع باتجاه الحرب مع «أبناء العم» يقول لممثليهم إن العرب ليسوا واثقين من أنهم سوف يكسبونها. كيف يمكن لقائد مقبل على حرب أن يهدئ مخاوف خصومه على هذا النحو؟ هذه – إن صحَّت - هي «هدية الموت»، هي التضحية بالنفس، كما وصفها دريدا. هي «هدية مطلقة»، لا تتوقع مقابلاً، ولا تتوقع حتى اعترافاً من المُهْدَى إليه، الذي هو كائن يستغني عن الجماعة في وجودها التاريخي، بوجود مثالي متعال وصفه البعثيون في ما بعد بأنه «أمة واحدة ذات رسالة خالدة». وفي المقابل يهدر الإسرائيليون كل فرصة للسلام متذرعين بموروث خطابي لرجال من أمثال عزام باشا أو أمين الحسيني، على رغم إدراكهم حقيقة أن الدول العربية (أو ما تبقى منها) تجاوزت هذا الموروث في كثير من ممارساتها العملية، وإن لم تؤسس بهذه الممارسات ثقافة جديدة؟ لماذا تعمل إسرائيل على وأد كل قوة فلسطينية قادرة على تجاوز آلام ومرارات لا تنكر، باتجاه سلام مع المواطنين على الجانب الآخر للخط الأخضر؟ لماذا الإصرار على دفع الفلسطينيين باتجاه العنف؟ الجواب واضح: لكي يتواصل نزيف الدم اليهودي والعربي. هذه «هدية الموت» الإسرائيلية. فكيف نوقف هذه المبادلات المخيفة؟ لن يكون التفات بنيامين نتانياهو إلى تحذير جون كيري (مؤسسة بروكينغز/ 5 كانون الأول) من مغبة ترك السلطة الوطنية الفلسطينية تتداعى، إن حدث، سوى مفاجأة مذهلة. فهل تتكامل مبادرات سلمية عربية، مثل المبادرات الأربع التي يدينها المعلق القاهري محمد المنشاوي، وغيرها، مع الانتفاضة الفلسطينية الراهنة لخلق تحرك باتجاه سلام؟ هل يمكن أن نحرر الثقافة السياسية الإسرائيلية من إدمان التلكؤ الباهظ الكلفة قبل أن نحرر ثقافتنا السياسية من شعبوية لم تعد قادرة على مواكبة التحركات الرسمية؟     * كاتب مصري

مشاركة :