يشعر المتتبع للسياسة التركية في العقدين الأخيرين بالذهول من حجم الاستدارة التي حصلت فيها فمن حليف وثيق للغرب الى ساحة مفتوحة للمشاحنات بين الطرفين ومن سياسة صفر مشاكل مع الجيران إلى تصدعات هائلة في العلاقات مع الجيران وبعض حلفاء الامس وصلت في بعضها الى حدّ التدخل العسكري المباشر حتى أن اسم تركيا أصبح علامة مميزة حاضرة في كل أزمة اقليمية ودولية فهي حاضرة في ليبيا وسورية والعراق وأذربيجان وأرمينيا وأوكرانيا وفي أثناء الربيع العربي وبين العرب وإيران والغرب وروسيا وهي حليف للولايات المتحدة وفي نفس الوقت شريك للصين وروسيا، حتى أن السياسة التركية وصلت إلى مستوى من التفارق بينها وبين تلك الأطراف جميعها وإذ بها تتحول بشكل شبه جذري مرة أخرى الى حالة من الود والتعاون إذ استعادت العلاقات دفئها وحميميتها مع أغلب تلك الأطراف فماذا حصل كي تنقلب الامور. ربما تكون تركيا الدولة الأمة هي الوحيدة التي لم ترث تاريخها رغم انها خرجت كدولة نتيجة ترتيبات هزيمة كبرى حطمت امبراطورية استمرت ستمائة عام (الإمبراطورية العثمانية) وامتدت على ثلاث قارات وحكمت العالم الإسلامي ومساحات واسعة من أوروبا وشهدت أراضيها صراعاً مراً بين الشرق والغرب والمسيحية والإسلام ومؤخراً بين الحداثة والتقاليد، وقد حكم نشوءها هزيمة الحرب الأولى 1918 وما نتج عنها من اتفاقية سيفر وما تلاها من تعديل في اتفاقية لوزان على إثر انتصار القائد كمال أتاتورك عام 1923، لكن تركيا لن تبقى مهزومة إذ بعد عقود من الولادة العسيرة تحولت تركيا من دولة فقيرة الى اكبر اقتصاد في منطقة الشرق الأوسط وثاني قوة عسكرية في حلف شمال الأطلسي بعد الولايات المتحدة وهذا في عرف السياسة فائض من القوة والمال يجب أن يرتب نتائج جيوسياسية ومن هنا انطلق ما عرف لاحقاً بالعثمانية الجديدة التي ستؤدي إلى كل ما ذكرناه. رجلان اثنان أطلقا العنان لهذا المفهوم احمد داود اوغلو ورجب طيب أردوغان فكلاهما كان على قناعة بأن تركيا لن تعود أمة مؤثرة دولياً وإقليماً إلا بإعادة وصلها بما سلف الأمة العثمانية، لكن هذا يتطلب حواضن داخلية وخارجية في الداخل حيث قطع كمال أتاتورك الأوصال مع كل ماض، بدءاً من حروف اللغة والتي تحولت الى اللاتينية مروراً بالثقافة والتي أصبحت غربية فكان لا بد من إعادة إحياء هذا الموروث والذي بدأ بمدارس إمام خطيب من ناحية التراث الديني وإعادة كتابة اللغة التركية بالحروف العربية الأمر الذي أثار عواصف داخلية تجسدت بصراع محتدم بين أنصار العلمانية (الكمالية) وأنصار الأسلمة والتي ما تزال رحاها مشتعلة، أما على الصعيد الخارجي فكانت بحاجة إلى مدّ جسورها مع ولاياتها السابقة ابان الخلافة العثمانية وتحت هذا المسمى بالذات دغدغت مشاعر التيارات الإسلامية فكان تحالفها مع تلك التيارات والذي تجسد بشكل واضح في الربيع العربي حيث احتضنت بشكل كلي مطالب تلك الجماعات، طبعاً هذا نسف كل علاقاتها مع الحكومات والدول العربية المناهضة لذلك الربيع. إذاً، أرادت تركيا الحاضر أن تستفيد من فائض القوة لديها وأرادت أن تعيد النظر في ترتيبات مع بعد سيفر ولوزان للحصول على مكاسب جديدة على مستوى جغرافيتها السياسية لكنها دون شك اصطدمت مع كل المتضررين الذي بادروا بالوقوف في وجه الطموح التركي الجارف لكن الملفت للنظر أن طموح تركيا لم يتراجع بسبب ضغط هؤلاء او قوتهم بل تراجع بنفس السبب الذي أدى بها الى هذا الطريق، إنه الاقتصاد، إذ خسرت بسبب امتعاض الآخرين منها ميزات عديدة وفرتها سياسة صفر مشاكل ونسفتها سياسة العثمنة فوجدنا التضخم وتراجع العملة وانهيار الاقتصاد وهو ما يهدد فرص حزب العدالة والرئيس أردوغان بالفوز بانتخابات 2023 خصوصاً ان المعارضة تبدو موحدة الآن ضده لذلك كان لا بد من استدارة وإن بدت حادة نحو الماضي القريب وإن تطلب ذلك التخلي عن احلام الماضي الأبعد وإن مؤقتاً لكل ذلك شهدنا خلال عقدين تبدلات عاصفة في السياسة التركية الداخلية والخارجية. والآن نلاحظ أن تركيا تضع أقدامها في كل المعسكرات ليس طمعاً في الانجرار لأي منها لكنها على ما يبدو رغبة في ادارة التنافس بين هذه الاطراف لكن مع كل ذلك تبقى علاقة تركيا مع حلفائها في الغرب هي الوحيدة الباقية والقادرة على ايصالها الى موقع القوة العالمية بعد أن ثبت أن إعادة المنطقة الى صيغة مشابهة لما كان في عهد الإمبراطورية أمراً مستحيلاً وكارثياً، لهذا وغيره ستستمر تركيا ورئيسها بالرقص على حبال الصراعات أملاً في ان تحقق بعض المكاسب لهذه الأمة الجريحة والطامحة. "الغد"
مشاركة :