استغرقت رحلة أم خلود (35 عامًا) بين الرقة السورية والعاصمة دمشق 5 أيام، مرت خلالها عبر أكثر من 40 حاجزًا تابعًا للقوات الحكومية وميليشيات «الدفع الوطني» وتنظيم «داعش». وعند كل حاجز، كان الركاب يضطرون للخروج من الحافلات الصغيرة، والخضوع لتفتيش دقيق يستغرق وقتًا طويلاً، يجري خلاله إفراغ الحافلة من كل حمولتها، فضلاً عن دفعهم رشى لقاء المرور عبر تلك النقاط. فقد قطع تقاسم النفوذ الجغرافي في سوريا بين الكيانات المسلحة، التواصل بين المدن، وعزل بعضها، وفرض مصاعب شاقة على حركة العبور، مما ضاعف مخاطر الموت على المرضى الذين يتنقلون بهدف الحصول على علاج. وأم خلود واحدة من مئات السوريين الذين يتنقلون يوميًا بين المدن السورية. ويضاعف العدد الهائل من الحواجز العسكرية ونقاط التفتيش معاناتهم، حتى بات العبور من مدينة إلى أخرى يستغرق أكثر من عشر ساعات، بينما لم يكن يستغرق قبل الأزمة أكثر من ساعة واحدة. تقول أم خلود إنها عانت مع طفليها خلود (6 سنوات) وأحمد (3 سنوات) قبل الوصول إلى الحدود اللبنانية - السورية، فقد قضت خمسة أيام على الطريق، وأفادت: «غادرتُ الرقة في الساعة السادسة صباحًا في التاسع من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، ولم أصل إلى حلب حتى الساعة الواحدة مساءً (أي بعد 19 ساعة)»، خضعت خلالها للتفتيش على 6 حواجز لقوات «داعش» الذي يسيطر على المدينة، وأربعة حواجز للقوات الحكومية. وتضيف: «من حلب، استقللنا حافلة على أساس أن تقلنا إلى الشام، لكنها توقفت في حماه بسبب اشتباكات وقعت عند مدخل حماه لجهة حلب، فبقينا يومًا كاملاً في حماه وغيرنا الحافلة إلى حمص التي وصلنا إليها بعد يوم كامل». وتحولت كل مدينة إلى محطة تلزم العابرين بالمكوث فيها، ذلك أن خطوط العبور تلتزم بأوقات سير محددة، خوفًا من قطاع الطرق، كما تسير وفق الظروف الأمنية المتاحة، إذ تعطلها الاشتباكات التي قد تندلع في أي لحظة. تضيف أم خلود التي تسكن في البقاع في شرق لبنان الآن أنه «من حمص إلى دمشق، استغرقت رحلتنا يومًا كاملاً، وفي اليوم الخامس وصلنا إلى الحدود اللبنانية - السورية بعد خمسة أيام من المعاناة والقهر والعذاب»، مشيرة إلى أن الرحلة «كلفتني أكثر من 90 ألف ليرة سوريا إيابًا (نحو 250 دولارًا)، ناهيك باجتياز أكثر من 40 حاجزًا للنظام وستة حواجز لـ(داعش)، معظمها في حلب، وعند كل حاجز كنا ننزل أغراضنا إلى الأرض ونعود لنرفعها إلى سطح الحافلة التي كانت تقلنا». ولا تقتصر المصاعب على خط الرقة - حلب، فالطريق من البوكمال في شرق سوريا باتجاه دمشق، يزداد صعوبة، مع طول المساحة التي يسيطر عليها تنظيم داعش باتجاه ريف حمص. يقول خالد الذي وصل إلى لبنان قبل فترة وجيزة برفقة ثلاثة أطفال وزوجته، إن الطريق «يستلزم العبور على عشرات الحواجز الأمنية»، فيما استدعت الإجراءات التي فرضها تنظيم داعش، هربه عبر مهربين دفع لهم مبلغًا ماليًا كبيرًا، نظرًا لمنع التنظيم «سكان مناطقه من الخروج منها». وأوضح خالد: «خاطرنا بأرواحنا لقاء الهروب من البوكمال»، المدينة الحدودية مع العراق في محافظة دير الزور، ذلك أن التنظيم «سيعدمنا لو قبض علينا محاولين الهرب من المدينة». ويشير إلى أن الحياة في مناطق نفوذه «لا تُحتمل، مما دفعنا لاتخاذ خيار الهروب من الجحيم». استغرقت الرحلة 4 أيام قبل الوصول إلى دمشق، ومنها إلى الأراضي اللبنانية، بينها «يومان قضيناهما في الصحراء». وأضاف: «تكلفة التنقل تضاعفت، بسبب دفع الرشى والدفع للمهربين، وتفوق المائة دولار للشخص الواحد، وتتوزع بين كلفة أجرة سيارة التاكسي، ورشوة العسكريين والمسلحين على الحواجز». وازدادت التكلفة أكثر قبل العبور إلى لبنان «بعد فشلنا بالدخول كنازحين، مما استدعى دفع مبلغ مالي لأحد اللبنانيين لقاء كفالتنا للدخول». وأشار خالد إلى أن الطريق من البوكمال إلى لبنان «مهدد إما بخطر الإرهاب أو بظروف طبيعية، لأن الرحلة تستدعي العبور في البادية والطرقات الجردية في الجبال»، لافتًا إلى أن الرحلة «تشمل الكثير من المخاطر لأنه في حال حصول أي خلل أو مشكلة للحافلة، فهذا يشكل خطرًا كبيرًا على النازح لأنه من الصعب أن يستدل أحد على مكان وجوده. فهو طريق صعب ولا يوجد فيه سكن، وحتى الهاتف لا تكون شبكة الإرسال فيه ضمن التغطية في الكثير من الأماكن». مر خالد عبر الطريق الدولية إلى تدمر «وهي طريق معرضة للكثير من القنص والقذائف، عدا عن الحواجز التي يمكن أن يشتبه بك مسلحون ويتم خطفك». ومن تلك الطريق، عبروا جنوبًا باتجاه القلمون الشرقي، مما استدعى العبور على حواجز لتنظيم داعش، وأخرى للقوات النظامية وأخرى لفصائل المعارضة السورية في ريف دمشق الشرقي. ويضيف: «أنا وعائلتي تواصلنا مع لبناني أكد لنا أنه سوف يؤمن لنا وثيقة كفالة، لكي نعبر الحدود اللبنانية مقابل مبلغ مالي. فكان من المفترض أن نأخذ بطاقة من أقرب نقطة لتنظيم داعش خارج البوكمال وقررنا أن نأتي عبر تدمر، فكانت أهمية البطاقة أن نبرزها عند كل الحواجز التابعة لـ(داعش)، ثم نسلمها قبل آخر نقطة تفتيش تابعة لهم قبل الوصول إلى مناطق وجود النظام». ويضيف: «كانت الرحلة شاقة جدا وانتابنا الخوف، خصوصا أننا ذاهبون إلى المجهول، ولم أعلم إن كان سيتم رفض إدخالنا الأراضي اللبنانية، فكانت الهواجس كبيرة». ويختم خالد: «نهرب من الموت.. والموت يبحث عنّا. نتمنى أن نطوي صفحة المعاناة، ونعود أدراجنا إلى بلادنا، حين يعم فيها الأمان».
مشاركة :