رغم التطور التقني الذي غزا كافة مجالات الحياة؛ فإن المكتبات ما زالت تؤدي دوراً مهماً في حياة الأفراد والشعوب، فهي الملاذ الآمن للحصول على المعلومات الموثوقة، وهي الحصن الحصين أمام الأفكار المشبوهة والمشوهة والتي يريد مروجها تدمير عقول الأمة وخاصة شبابها. تختلف أنواع المكتبات وتتعدد لتشمل العشرات من هذه الأنواع، ما بين المدرسية والجامعية، والعامة والخاصة، والمتخصصة والناطقة، ... إلخ من أنواع المكتبات، وفي خضم هذا التعدد تظل المكتبات الخاصة أو المنزلية واحدة من أهم المكتبات على مدار التاريخ، بل ومن أقدم أنواع المكتبات ظهوراً وانتشاراً. وهناك العديد من التعريفات التي أطلقت على المكتبات الخاصة، فهي المكتبات التي أنشأها أو قام بإنشائها الأفراد أنفسهم، سواء كانوا من العلماء أو المثقفين، أو الأفراد العاديين في منازلهم، أو أي مقر خاص بهم، وتضم مجموعات من مصادر المعلومات التي تلبي احتياجاتهم المعرفية والعلمية. فيما عّرفها «هارود» بأنها: المكتبة التي يمتلكها الفرد، وكذلك يمتلكها فئات من الناس، أو النادي، أو مؤسسة أخرى، حيث إن العامة ليس لهم الحق في الدخول إلا بإذن صاحب المكتبة. وقد أظهرت الدراسات الوثائقية والعلمية أن المكتبات الخاصة قد عُرفت فيما قبل التاريخ، فقد عرفها الفراعنة، وبلاد ما بين النهرين، الحضارة اليونانية القديمة، إلى جانب الصين وروما، وقد ازدهر هذا النوع من المكتبات خلال عصر النهضة في أوروبا، حيث أنشأ الملوك والحكام في جميع أنحاء القارة مكتباتهم الخاصة، وأثروها بالمطبوعات والمخطوطات من الداخل والخارج، أو تلك المواد التي جُلبت لهم عن طريق الحروب والاحتلال. وفي العالم العربي أيضاً، انتشر هذا النوع من المكتبات في جميع العصور خاصة في عصري الدولة الأموية والعباسية؛ حيث ارتبط كثير من المثقفين بمكتباتهم الشخصية وأثروها بمؤلفاتهم، أو بالمؤلفات التي أهديت لهم أو تلك التي اشتروها بحر مالهم لتلبي حاجتهم المعرفية والعلمية. وفي المملكة العربية السعودية كان الاهتمام بهذا النوع من المكتبات كبيراً، وكان لي شرف زيارة المكتبة الخاصة بخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله - والكائنة في قصر عرقة، وهي من المكتبات القيمة والتي تضم آلاف من الكتب والمطبوعات مصنفة ومرتبة حسب أحدث النظم العلمية. وقد مثَّلت هذه المكتبة عاملاً مهماً في تشكيل شخصية سمو سيدي ولي العهد ومعارفه، حين كان يتردد على مكتبة مدارس الرياض، مشيراً إلى أن كثيراً من مصادر المعلومات الموجودة بها سبق وأن رآها وأطلع عليها في مكتبة مولاي خادم الحرمين الشريفين الخاصة. وعلى صعيد تاريخ هذا النوع من المكتبات، فقد عرض سعادة الأستاذ الدكتور سعد الزهري في مقال له بعنوان: المكتبات الخاصة في المملكة العربية السعودية: دراسة ميدانية. وقد تم نشر المقال في مجلة مكتبة الملك فهد الوطنية المجلد الأول العدد الثاني عام 2015م، وجاء فيه: أن هذا النوع من المكتبات قديم في المملكة، وأن هناك العديد من الدراسات التي تناولته، كما أشار إلى هناك الكثير من المكتبات الخاصة تم إهداؤها إلى مكتبة الحرم المكي الشريف، هذا إلى جانب مكتبات الأمراء والوزراء والمثقفين من أبناء الوطن. كما ذكر أيضاً أن المدينة المنورة تزخر بعدد من المكتبات الوقفية عبر عصورها التاريخية المختلفة، وأن هذا النوع من المكتبات الوقفية توزع في كافة أنحاء المملكة ولم تقتصر على منطقة معينة، فهناك العديد من المكتبات الخاصة التي عُرفت في المنطقة الشرقية وبخاصة الأحساء والقطيف وما بينهما من الحواضر، وكذلك في كل من نجد والطائف وغيرها من مناطق المملكة. وللمكتبات الخاصة فوائد متعددة، يرى AMITESH JASROTIA في مقالة: Monday Musings of a Bibliophile | Why should you build a personal library at home?، أن هناك خمس أسباب تدفعك لبناء مكتبتك الخاصة في المنزل هي: 1. تصبح غرفة صدى الأفكار ووجهات النظر الخاصة بك. قد لا يكون لدى العالم إجابات على جميع أسئلتك، ولكن مكتبتك الشخصية - عندما يتم تنسيقها على مر السنين - يمكنها معالجة الكثير منها متى لجأت لها. 2. يمكن أن تكون مكانك الهادئ للتفكير خاصة عندما تريد الهروب من التشتت الفكري في العالم الحديث. 3. تظهر الدراسات أننا لا نتذكر أكثر من 2 % من الكتاب بعد شهر أو نحو ذلك. حتى تلك الذكريات تتلاشى مع مرور الوقت. ولكن إذا كان لديك هذا الكتاب في مكتبتك الشخصية، فيمكنك الرجوع إليه وإعادة قراءته. في المرة الثانية، ستستخرج المزيد منه. 4. معظم الناس الذين يبنون مكتباتهم الشخصية، يجمعون الكتب على المدى الطويل. يمكن أن يكون هذا هدية عظيمة للأجيال القادمة. خذ على سبيل المثال، Umberto Eco الذي ترك مكتبته الشخصية الضخمة لجامعته الأم جامعة بولونيا. قد لا يكون موجودًا اليوم، لكن مجموعته ستفيد آلاف الطلاب. 5. يمكن أن تساعد المكتبة الخاصة في بناء إمبراطوريتك الخاصة. هذا يبدو مبالغاً فيه، ولكن كل كتاب في مكتبتك يمثّل جهدًا فكريًا شديدًا من قبل مؤلفه. وإذا كان لديك 100 كتاب، فلديك 100 فكرة رائعة تحدق فيك ليلاً ونهارًا. وفي المملكة العربية السعودية؛ وحيث تسعى هيئة المكتبات والتي تتبع وزارة الثقافة؛ إلى الإشراف على المكتبات وتنظيمها، وجعلها رافداً ثقافياً مجهزًا ومهيًأ لكافة أطياف المجتمع، وذلك لتنمية القطاع والنهوض بمقوماته. وتعنى هيئة المكتبات بتطوير وتعزيز قطاع المكتبات، وهو من القطاعات التي تشكل مصدراً أساسيًا للبحوث العلمية والتطوير والدراسات بكل أنواعها وتنمية الثقافة وموطن القراءة؛ وذلك من خلال اقتراح إستراتيجية ومنهجية العمل في القطاع والتعاون مع الجهات ذات العلاقة بالمكتبات، مثل الجامعات والمدارس والمكتبات العامة. كما ستعمل هيئة المكتبات على تشجيع العاملين في المجال عن طريق الاستثمار وتسهيل التمويل ودعم الأفراد والمؤسسات والشركات على إنتاج محتوى محلي في قطاع المكتبات، وإقامة دورات تدريبية تشمل كافة جوانب القطاع؛ وتمثيل المملكة في المحافل والمنظمات الإقليمية والدولية. ستعتمد هيئة المكتبات البرامج التدريبية المهنية والجهات المانحة للشهادات المختصة في قطاع المكتبات، وبناء البرامج التعليمية وتقديم المنح الدراسية، وستكون هيئة المكتبات هي الجهة المانحة لتراخيص أنشطة المكتبات وستنشئ الهيئة قاعدة بيانات ضخمة تضم كافة الجهات والأشخاص المعنيين في قطاع المكتبات. ومن ضمن الأهداف التي أتمنى أن تعمل هيئة المكتبات على تحقيقها؛ إعادة إحياء مكتبة المنزل أو المكتبة الخاصة، وذلك يمكن أن يتحقق من خلال التعاون مع وزارة التعليم بأن يمنح الطلبة المتميزون مجموعات من الكتب والقصص مع تصميم أكثر من نموذج للمكتبات الخاصة سواء التي يوفر لها غرف مستقلة أو الاكتفاء بمجموعة من الرفوف توضع عليها هذه المجموعات، وبحيث يرتبط استخدام الطالب لها بأمين مركز مصادر التعلم، والذي يمكنه منح الطالب المزيد من مصادر المعلومات. وعلى جانب آخر يمكن للمؤسسات الحكومية والقطاع الخاص أن تساهم في نشر هذا النوع من المكتبات بحيث يمنح الموظف الجديد مجموعة من مصادر المعلومات التي تعينه على أداء عمله، إلى جانب توقيع اتفاقيات مع إدارات التدريب والتنمية المهنية في هذه المؤسسات على مدها بأحدث المصادر للموظفين المتميزين. وهناك دور مهم جداً لوزارة الثقافة نفسها من خلال المعارض ونقاط بيع الكتب ومصادر المعلومات الأخرى المدعومة من الدولة وعمل مسابقات بين المتسوقين جائزتها مكتبة خاصة في المنزل. كما أود أن تتبنى هيئة المكتبات دراسة حصرية لكافة المكتبات الخاصة بالعلماء والأدباء والمثقفين السعوديين ومعرفة إلى أي مآل آل مصيرها. وأخيراً وليس آخراً، تعد المكتبات الخاصة الحصن الحصين والحارس الأمين لشباب الأمة ضد التيارات الفكرية المتطرفة بكافة أشكالها وأنواعها، وهي الملاذ الآمن لكل قابض على قطعة الجمر.
مشاركة :