لندن - يحتفي العدد الثاني والتسعون من مجلة “الجديد” الثقافية، الصادر في سبتمبر، بالسرد العربي من خلال مقالات متنوعة يقارب كل منها الكتابة السردية من باب، وسمتها المجلة في غلافها بعنوان جامع هو “الجنة المفقودة.. مغامرة السارد العربي قاصا وروائيا”. وتواصل المجلة فتح السجالات الفكرية والثقافية إذ اختارت هذا العدد قضية الترجمة ليناقشها عدد من الكتاب والمترجمين، للإضاءة على أهم تحدياتها ورهاناتها. إلى جانب الكتابات الفكرية والأدبية والفنية الشهرية والرسائل وعروض الكتب، والسينما والتشكيل، والظواهر البصرية في الفن، اهتم عدد سبتمبر الجاري من مجلة “الجديد” بالرواية والسرد القصصي من خلال ملفين، الأول تحت عنوان “سرد عربي” شاركت فيه أقلام نقدية عربية من اليمن، العراق، مصر، المغرب، تونس، ممثلة في كل من أماني الصيفي، محمود فرغلي، حمزة قناوي، عبداتي بوشعاب، ناهد راحيل، لؤي عبدالإله. وأفرد العدد حيزا واسعا لتجربة الكاتب خيري الذهبي، بوصفها علامة روائية عربية، فضم الملف مقالات ودراسات نقدية وشهادات حول تجربته الأدبية والفكرية، شارك فيه نقاد وكتاب من سوريا، فلسطين، مصر، العراق، الأردن، هم خلدون الشمعة، أحمد برقاوي، فواز حداد، أحمد سعيد نجم، ممدوح فراج النابي، إبراهيم الجبين، يوسف وقاص، محمد منصور، عواد علي، علاء رشيدي، محمد جميل خضر، فارس الذهبي. وضم الملف مقالة للروائي الراحل غالب هلسا، ومقالتين للذهبي نفسه، الأولى في الكتابة الروائية والثانية من دفتر يوميات يحفر في ذاكرة دمشق، وأخيرا احتوى الملف على حوار استعادي مع الذهبي كان قد أجراه الناقد الفلسطيني أنطوان شلحت في تونس ونشر في صحيفة الاتحاد الحيفاوية. السرد العربي في مقدمة الحوار رأى المحاور أن الكاتب استلهم في تجربته الأدبية الشكل الروائي لـ”ألف ليلة وليلة”، وهو الشكل الدائري حلزوني البناء والمخالف للشكل الغربي الأوروبي هرمي البناء، حيث البداية والذروة ثم النهاية، ما كان یكترث له الذهبي هو فكرة الاستمرارية، كل الأشياء تبدأ لئلا تنتهي فهي تعطي البداية لغيرها. في العدد أيضا مقالتان في الشعر العراقي، الأولى من نادية هناوي في نقد التجييل الشعري الستيني، والثانية من علي تاج الدين عن الأسطوري والسياسي في الشعر العراقي التسعيني. حال ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأخرى كانت فقرة أساسية في افتتاحية “الجديد” التي كرسها الشاعر نوري الجراح لإثارة جملة من القضايا الشائكة في الثقافة العربية، يقول الجراح “العرب لم يهتدوا بعد إلى جواب شاف عن سؤال الترجمة. وهو سؤال ينفتح بنا على أكثر من سؤال، وأولها: ما الغاية من الترجمة من لغة من اللغات وإليها؟ وعلى عاتق من تقع ترجمة أدب أمة إلى لغات أمم أخرى؟”. ويؤكد أن الثقافات الأخرى حسمت هذين السؤالين، معتبرة أن من واجباتها ترجمة آدابها إلى اللغات الأخرى، فالثقافة أحد الأوجه المعبرة عن قوة أمة ومكانتها بين الأمم. وعلى هذا الأساس حددت واجباتها إزاء أدبها وفكرها. ويرى الشاعر أن العرب في عصرنا مازالوا حائرين وسط عالم يشعرون بغربة كبيرة عنه. بل إن بعضهم يشعر بأن هذا العصر ليس له، حيرتهم وعجزهم عن الانخراط الفاعل في صنع عالمهم والمشاركة في صناعة العالم تجعلهم ينتظرون من الآخرين أن يقوموا بالمهمة نيابة عنهم، لكأنهم أمة استكانت لكونها غير قادرة على معرفة مواطن الإبداع لديها، ولم تعد تملك الثقة في ما تملك، وتريد من الآخرين اكتشاف ذلك عندها، ما يجعلها غير مهيأة لأن تكون فاعلة في ثقافة العصر. من هنا – يضيف الجراح – لا بد أن نبدأ لكي نفهم ما يبدو فوضى عربية اسمها الترجمة، حيث لا خطط، لا أولويات، لا برامج تقف وراءها هيئات ثقافية عربية رسمية أو أهلية مدعومة من الدولة والمجتمع تعنى بنقل الأدب، وهو ما ترك الباب مفتوحا على المبادرات الشخصية، والعلاقات الشخصية والمعايير الشخصية في صناعة فرصة الترجمة، فمن يصنع الفرصة ليس الخطة، وإنما مبادرة الكاتب نفسه، فهو من يختار وهو من يسعى إلى أدبه حضورا في ثقافة غير ثقافته. سؤال الترجمة ويشدد أنه بعد ذلك هناك الطلب الأجنبي على الأدب، وغالبا ما يتمثل في طلب يأتي من أكاديمية، أو مهرجان أدبي، أو صندوق ثقافي، أو برنامج للاجئين (الأخير بات الموضة الأشيع مع كل موجة من موجات اللجوء) وهنا تتداخل أولويات الأكاديمية، والمهرجان والصندوق الثقافي، مع برامج اللجوء وسياسات الدول وتتحول القصيدة والقصة والرواية واليوميات إلى وثائق اجتماعية وتقارير تساعد في فهم أحوال جماعة لغوية تنتمي إلى مجتمعات مأزومة أكثر منها عملا إبداعيا. ويذكر أنه لو استثنينا بعض دور النشر الغربية العريقة التي تركت الباب منفرجا بعض الشيء لمرور إبداعات عربية، فإن ما يزيد الطين بلة هو تلك الدور الصغيرة المتناثرة في هذه المدينة الأوروبية أو تلك وتعنى بنشر ترجمات أدبية عربية بطلب من أصحابها أو من جهات أكاديمية لقاء أثمان الطبع وأجور الشحن والتوزيع وهي بالتالي أقرب إلى المطابع التجارية منها إلى دور النشر، وغالبا ما تؤول مطبوعاتها إلى رفوف الجامعات أو غيرها من المؤسسات، ولا تدخل في نسيج الحياة الثقافية والأدبية للبلد المضيف. هذا جانب معتم من الصورة المتعلقة بالترجمة إلى اللغات الأخرى، والمؤسف حقيقة أن المؤسسات العربية التي تعنى بترجمة الأدب العربي اليوم، تقتصر الفكرة لديها على الترجمة إلى العربية، وليس في خيال القائمين عليها أي معنى آخر، في ظل قدر عربي يجعل من الكاتب شخصا أعزل، بلا سند من ثقافته يمكنه من الانطلاق عالميا، فهو أصلا كائن غير معترف له بوجود يستحقه في ظل مجتمعات ما تزال لا تلحظ الأفراد المبدعين وما برحت تتخبط ما بين أفكار أهل الكهف من جهة، وشبكة الحداثة المستجلبة من جهة أخرى، وهي المعادلة الوحيدة الممكنة، حتى الآن، في عالم يحكمه الفوات الحضاري على وجوه شتى.
مشاركة :