إن إقامة الحدود الإلهية بما فيها «القصاص» دليل على وعي الأمة وتقديرها لمعنى الحياة، وبرهان على استمراريتها؛ فبإقامة الحدود يُردع المجرمون ويرتدع من يفكر باقتفاء أثرهم في إجرامهم.. "يا أولي الألباب" بهذا النداء الرباني ينبه الله طائفةً من الناس ويناديهم بصفةٍ لم يُعرفْ بها إلا أهل الصفوة من خلقه، "أولي الألباب" وانتقاء هذه الصفة من بين صفاتٍ كثيرة يتصف بها هؤلاء إنما هو إشارة إلى تناسق الأمر ووضوحه لدى العقول، إذ إن من الشريعة من الأحكام مايخاطب به الناس بصفة الإيمان "يا أيها الذين آمنوا" ولعل ذلك لخفاء بعض وجوه الحكمة في كثير من العبادات، وتجد عند تفسير كثير من الفقهاء لبعض تلك العبادات قولهم "أمر تعبدي" أي إن الحكمة فيه لا يهتدي إليها العقل، وإن كان هذا الأمر لا يسلم به البعض ويناقشه من عدة وجوه، إلا أننا في هذه الآية لا نجد معترضًا على وضوح معناها وبيان مقتضاها وجلاء برهانها، فلذلك نادى الله فيها "أولي الألباب" ولا يختص هذا النداء بأمة دون أمة، فأولو الألباب هم من اتضحت لديهم الرؤية وتكاملت عندهم الصورة وتجلت لهم من بين حروفها الحكمة فإن الله أرشد فيها أولي الألباب إلى "حياةٍ" هكذا جاءت في الآية بغير تعريف وهذا التنكير لم يأت عبثًا إنما هو تنكير مقصود، فإن الحياة حين تعرّف وتطلق يراد بها الحياة المتكاملة من كل الوجوه وليس ذلك إلا في الآخرة، وهنا أتت بغير تعريف لتعم حياةً أرادها الله لنا أن تكون حياةً استخلافية في الأرض "إني جاعل في الأرض خليفة" فكل من يريد الحياة الاستخلافية هذه غير منغصة بشوائب الظلم وغير منقطعة بقوطع الاعتداء داخل في هذا النداء،إذ إن مجرد التفكير بالحياة الآمنة المستقرة ينبئ عن عقل ولبٍ قد أوتي حظه من الحكمة، ومجرد التفكير بالاعتداء وإزهاق الأروح يعود إلى طارئ يطرأ على ابن آدم يسير به في دياجير الظلم، ولذلك قالت الملائكة لربها وباريها حين أخبرهم بإرادة خلق آدم "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" فهذا الانحراف يطرأ في مسيرة ابن آدم في الدنيا وليس ذلك في كل خلقه إنما هم قلة ممن تنحرف فطرهم وتقسو قلوبهم، فالله قد علم أن ذلك سيكون في خلقه غير أنه أمرٌ قد عالجه الله أزلاً بعلمه وأنزله مرتبًا لخلقه فما من شريعة إلا وحرمت الظلم والاعتداء وإزهاق الأنفس ولذلك قال الله للملائكة "إني أعلم ما لا تعلمون" فالله جعل هذه الدنيا ابتلاءً لبني آدم وصراعًا بين الحق والباطل، وقد قوّى الله الحق بالحجة الدامغة والبراهين الواضحة، وأيده بالخلص من خلقه يدفعون بخيرهم شر من طرأ عليه الشر ويقيمون قسطاس الحياة بالعدل الرباني. إن إقامة الحدود الإلهية بما فيها "القصاص" دليل على وعي الأمة وتقديرها لمعنى الحياة، وبرهان على استمراريتها، فبإقامة الحدود يُردع المجرمون ويرتدع من يفكر باقتفاء أثرهم في إجرامهم ولله درّ من قال : ما رَتَّبَ اللَهُ الحُدودَ وَقَصدُهُ في الناسِ أَن يُرعى المُسيءُ وَيُرحَمُ لَو شاءَ قال دَعوا القِصاصَ وَلَم يَقُل بَل في القِصاصِ لَكُم حَياةٌ تَنعَمُ إِن كانَ تَعطيلُ الحُدودِ لِرَحمَةٍ فَاللَهُ أَرأَفُ بِالعِبادِ وَأَرحَمُ فَاِجزِ المُسيءَ كَما جَزاهُ بِفِعلِهِ وَاِحكُم بِما قَد كانَ رَبُّكَ يَحكُمُ وقديمًا قالوا "القتل أنفى للقتل" فكانت هذه العبارة الوجيزة من حكماء الجاهلية قسطاسًا يسيرون عليه ويذعن له المتخاصمون والمتصالحون لأنه يحمل في مضمونه الحياة فجاء القرآن بما هو أفصح من هذه الجملة بيانًا، وأعمق منها بلاغةً وأوضح منها دلالة على المحافظة على حياة من يقدّرون الحياة "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب" فكانت هذه الآية منبهًا للبّ الحكيم كي يغلّب ما فيه استدامة الحياة على العفو واللين في موضع لا ينفع فيه إلا القصاص، ثم ختمها بقوله "لعلكم تتقون" - أي تتقون غضب الله؛ لأن الله يغضب من انتهاك حدوده، وسفك الدم الحرام بغير حق، وأن يعيش المجرمون وسفاكو الدماء بغير قصاص، وتتقون كذلك حياة الإفساد والفساد التي تترتب على ترك المجرمين والقتلة دون الأخذ على أيديهم وأخذهم جزاءهم، وتتقون المعرّة التي تلحق المجتمعات التي ينتشر فيها الظلم وسفك الدماء على مرأى ومسمع من حكمائها وعقلائها، فالآية تشير إلى أنه لن تصلح المجتمعات أبدًا إلا بأيدٍ قوية وصوارم قاطعة يراها الآمنون فتزيد نفوسهم أماناً واطمئناناً، فتقر أعينهم وتهنأ مضاجعهم وتستقيم مصالحهم، ويراها العابثون فينكفئون عمّا يجول في خواطرهم من العبث، ويرتدعون عن فعل كل ما من شأنه أن يروّع الآمنين، وما خوطب أولو الألباب إلا أنهم أحق من يخاطب في هذا الموضع فالمجتمعات أمانة في أعناقهم، والدماء التي تسفك ظلماً والمصالح التي تتعطل بفعل عبث العابثين هم أول من سيسأل عنها، إذ قلدهم الله خلافته في الأرض، ويلزم من ذلك أن يكونوا حربًا على أعداء الإنسانية والخليقة بكل أطيافها. ونحن نحمد الله أن ولّى علينا من يقيم شرع الله ولا يألو في ذلك جُهدًا، ونحن عون له بالدعاء والدعوة، والنصيحة والتأييد، مع ثقتنا بعدالة قضائنا خاصة فيما يتعلق بالأنفس ومصالح الناس وأمنهم، ولا نريد أن نكون مجتمعًا عشوائيًا تخضع رقاب أبنائه للمفسدين والمجرمين ممن يضل عن سبيل الله، ولا نريد أن نكون مجتمعًا فوضويًا لا يجد فيه المواطن مأمنه ولا يستلذ بطيب حياته.
مشاركة :