«ندين بشدة مثل هذه الأنشطة السيبرانية الخبيثة التي تهدف إلى زعزعة استقرار حليف وإلحاق الضرر بأمنه، وتعطيل الحياة اليومية للمواطنين وأن حلف شمال الأطلسي والحلفاء يدعمون ألبانيا في تعزيز قدراتها الدفاعية الإلكترونية لمقاومة وصد مثل هذه الأنشطة السيبرانية الخبيثة في المستقبل» بيان صدر عن حلف الناتو في أعقاب إعلان ألبانيا أحد أعضاء الحلف اتهام إيران بالمسؤولية عن الهجوم الإلكتروني الذي استهدف منشآت حيوية في ألبانيا يوليو 2022 ومن ثم إعلانها قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران في 8 سبتمبر الحالي. وواقع الأمر أنها لم تكن المرة الأولى التي تواجه فيها دولة عضو في حلف الناتو مثل هذا الهجوم ، ففي عام 2007 تعرضت إستونيا لهجوم سيبراني استهدف الوزارات الحكومية والبنوك ووسائل الإعلام والعديد من الأحزاب السياسية، وتشير التقديرات إلى أن حوالي 58 موقعاً إستونيا توقف عملها تماماً نتيجة ذلك الهجوم، الأمر الذي حدا بحلف الناتو صياغة استراتيجية منفصلة للأمن السيبراني عام 2008 من أبرز ملامحها تأسيس مركز يختص بالأمن السيبراني ضمن هيكل الحلف، وكذلك إنشاء وحدة للدفاع الإلكتروني بإستونيا، وفي يونيو عام 2021 اتفق أعضاء الناتو على أن الهجوم السيبراني يعادل الهجوم المسلح الذي يستدعي تفعيل المادة الخامسة من ميثاق الحلف والتي تعد جوهر عمله بأن أي اعتداء على أي دولة من دوله يعد بمثابة اعتداء على الدول ككل ومن ثم يجب تدخل الحلف مجتمعاً لرد ذلك العدوان، وخلال اجتماع وزراء دفاع الحلف في أكتوبر من العام ذاته أعلن الأمين العام للناتو تأسيس صندوق للابتكار من أجل الاستثمار في التقنيات الجديدة وخاصة الذكاء الاصطناعي لتوظيفها في الاستخدام الدفاعي، وفي أبريل 2022 أعلن مركز الأمن السيبراني التابع للناتو بدء تدريبات محاكاة «افتراضية» بين دوله الأعضاء من أجل التصدي لهجمات إلكترونية ضد البنية التحتية الحيوية مثل محطات الطاقة وأنظمة الدفاع الجوي، كما تضمن المفهوم الاستراتيجي الجديد لحلف الناتو الصادر في العام ذاته الحديث عن تهديدات الأمن السيبراني وتلك أمثلة على سبيل المثال لا الحصر. ويعني ما سبق أن لدى حلف الناتو آليات مؤسسية وخطط عملية وتمرينات تدريبية دورية تتناسب وطبيعة الهجوم السيبراني الذي أضحى أحد أبرز تهديدات أمن الدول كافة في ظل الثورة التكنولوجية الحديثة وما تتيحه من فرص لاعتداءات من هذا النوع سواء من جانب دول أو جماعات ترعاها دول، ولكن التساؤل هو لماذا لم يتدخل الحلف لردع مثل تلك الاعتداءات وفقاً للمادة الخامسة؟ وخاصة أنه الهجوم الثاني لدولة عضو في الحلف بعد تعرض جمهورية الجبل الأسود التي انضمت إلى الناتو في عام 2017 لهجوم مماثل في أغسطس 2022 بيد أنه لم يسفر عن خسائر لقدرتها على التصدي له. في تقديري أن ثمة معوقات ثلاثة تحول دون رد الحلف بشكل فوري أولها: أنه بالرغم من المضمون الصريح للمادة الخامسة التي تجيز للحلف التدخل لردع العدوان سواء أكان عسكرياً تقليدياً أو سيبرانياً فإن خبرة الحلف تشير إلى أنه تعامل مع كل حالة على حدة وفقاً للظروف والمتغيرات التي تحيط بها، فضلاً عن أن الرد يتطلب إجماع دول الحلف الثلاثين كافة، وثانيها: أنه بالرغم من الآثار التدميرية للهجوم السيبراني والتي تفوق الهجوم التقليدي والتي يمكن اعتبارها ضمن الجرائم العابرة للحدود أو جرائم تنتهك قواعد القانون الدولي الإنساني وغيرها من التصنيفات ولكن لا توجد اتفاقيات دولية مباشرة تتضمن تجريم مثل تلك الجرائم وإلزامية تعويض مرتكبيها، وثالثها: ربما يكون لدى الحلف تقديرات متباينة لحجم الأضرار التي تخلفها تلك الاعتداءات والتي تكون عاملاً مهماً لتدخل الحلف من عدمه. وفي تصوري أن حلف الناتو على الرغم من الخطط والاستراتيجيات المشار إليها فإنه أمام تحد هائل بسبب تلك الهجمات السيبرانية لثلاثة عوامل الأول: احتدام الحرب في أوكرانيا والتي أكدت حقيقة مؤداها أن العالم لن يشهد مواجهات عسكرية مباشرة بين الدول الكبرى المؤثرة في النظام العالمي وبالتالي ترى بعض الدول في الهجمات السيبرانية سبيلاً لممارسة ضغوط أو استعراض ملامح القوة وفي هذا الإطار تشير المصادر إلى أنه تم رصد حوالي 300 حادث هجوم سيبراني خلال تلك الحرب، وربما يكون المزيد من تلك الهجمات هو البديل الأرجح حال استمرار الحرب مدة زمنية طويلة، والثاني: صعوبة إثبات عناصر الجرائم الإلكترونية ونسبتها إلى جهة ما في ظل التعقيد الذي يحيط بمثل تلك الجرائم، وثالثها: أنها تعد اختباراً لمضمون الردع وفقاً لنص المادة الخامسة التي تعد جوهر وجود وعمل الحلف كمنظمة دفاعية بالأساس، فعلى الرغم من مخاطر تلك التهديدات فإنه لم تصدر تصريحات أطلسية رسمية تؤكد إمكانية التدخل ولكن تلك التصريحات جاءت من جانب جيك ساليفان مستشار الأمن القومي الأمريكي الذي قال إن «حلف الناتو لا يستبعد رداً مشتركاً على هجوم سيبراني على إحدى الدول الأعضاء في الحلف». وفي ظل تلك التهديدات السيبرانية غير المسبوقة فإن حلف الناتو سيكون مدعواً للعمل على ثلاثة مسارات متوازية المسار الأول: صياغة خطط شاملة لمواجهة مثل تلك الاعتداءات والتي يجب أن تتجاوز كيفية استعادة المنشآت الحيوية لعملها إلى ممارسة الردع الإلكتروني بغض النظر عما أحدثته الهجمات من خسائر ترقى للتدخل من عدمه، لأن الردع هو أساس وجود الحلف ،والمسار الثاني: إجراء المزيد من التمرينات الافتراضية التي تستهدف مواجهة هجمات سيبرانية على أن تكون بشكل دوري بالنظر إلى تطور طبيعة تلك الهجمات نتيجة للثورة التكنولوجية الهائلة وتداعياتها، فمن شأن تلك التدريبات أن تحدد طبيعة التهديدات والقدرات ومن ثم رصد الثغرات إن وجدت ومحاولة تلافيها، أما المسار الثالث والمهم فهو ضرورة وضع تهديدات الأمن السيبراني ضمن أجندة حلف الناتو في حواره مع الشركاء، صحيح أن تدخل الحلف لمساعدة مثل الاعتداءات يظل محكوماً بالمادة الخامسة من ميثاق الحلف، إلا أن طبيعة التهديدات الأمنية الراهنة تتطلب مراجعة مضامين تلك الشراكات، بالإضافة إلى التحولات التي يشهدها العالم جراء الحرب الأوكرانية وما رتبته من شراكات واصطفافات عديدة تجعل من الضرورة بمكان أن يعيد حلف الناتو النظر في مضامين الشراكات الإقليمية بحيث تتجاوز مفهوم القيمة المضافة للأمن إلى الاحتياجات الأمنية الحقيقية ومن بينها دعم قدرات الدول الشريكة في مجال الأمن السيبراني عموماً وفي مجال الأمن البحري على نحو خاص في ظل اعتماد العديد من تلك الدول على الموانئ البحرية في تجارتها الخارجية، ولا شك أن خبرات وقدرات الناتو تمثل منطلقاً مهماً لدعم كل من الحلفاء والشركاء في مواجهة هذا الخطر الداهم. { مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات»
مشاركة :