إليزابيث الثانية أدركت ثقل المسؤولية

  • 9/19/2022
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

ماتت في مكانها المحبوب – بالمورال. هو المكان الذي يقال إن الأمير تقدم إليها بطلب الزواج منها فيه، وحيث أمضت أشهر الصيف طوال حياتها من دون رفقة باستثناء عائلتها. قيل لي إن الملكة قد أوضحت بهدوء أنها تأمل أن تموت في اسكوتلندا، وزادت مقدار الوقت الذي تقضيه هناك لتعزيز فرص حدوث ذلك. كانت المرأة التي أعطت الكثير من حياتها للواجب العام تحاول ضمان قضاء لحظاتها الأخيرة في أكثر ممتلكاتها الملكية خصوصية. وقد خططت بشكل بارع بالفعل. وقد ساد الأيام الأخيرة من حكمها شعور مُرضٍ بالإنجاز. بعد أن اجتازت اليوبيل البلاتيني بمناسبة مرور 70 عاماً على توليها العرش في يونيو (حزيران)، عاشت فترة كافية لتودّع رئيس وزرائها الرابع عشر بوريس جونسون، والترحيب برئيس الوزراء الخامس عشر. من ونستون تشرشل إلى ليز تراس. ويود المرء أن يعرف -ولن يعرف أبداً- رأي الملكة إليزابيث تجاه هذا العدد الكبير من المسؤولين الذين سطروا التاريخ السياسي. ومع أنه من الطبيعي أن يكون لكل شخص منّا آراءه الخاصة، لكنّ الملكة التزمت عدم الكشف عن رأيها قط. وبغضّ النظر عن مدى نجاح الملك تشارلز الثالث، فإن المؤكد أنه لن يكون لديه سحر والدته، لأننا نعرف الكثير عنه. وكانت الملكة محظوظة لأنها بدأت حكمها في عصر أظهرت خلاله الصحافة الاحترام والتوقير لأفراد العائلة المالكة. كما أنها كانت ذكية بما يكفي لإجراء مقابلة رسمية مرة واحدة فقط، من أجل فيلم وثائقي لشبكة «بي بي سي» عن التتويج. كان حديثها مع الغرباء مجرد حديث عابر محدود بشكل مثير. وكانت تعمد إلى استغلال ملامح وجهها التي بدت جامدة على نحو أزليّ كأداة استراتيجية دستورية. ومثلما أخبرني أحد مساعديها السابقين: «لأنها أمضت حياتها كلها بمثابة كتاب مغلق، كان الناس يعرضون عليها كل ما يبغون». وكانت فترة ما بعد وفاة ديانا فترة نادرة لم تتمكن خلالها أدوات الملكة من الوفاء بمتطلبات الساعة. في تلك اللحظة، اتضح فجأة أن الدور الرمزي للملكة الذي تدربت على الاضطلاع به لم يكن كافياً لأمة حزينة تطالب بشيء لم يُطلب من الملكة قط إظهاره من قبل: العاطفة. وجاءت الكلمات المنقذة في خطابها التلفزيوني المتردد التي تعترف بالمساهمة الفريدة لزوجة ابنها السابقة، عندما قالت: «ما أقوله لكم الآن، بصفتي ملكة وجدة، أقوله من قلبي». وكان «داونينغ ستريت» مَن أضاف لفظ «الجدة». وسرعان ما غفر لها الجمهور البريطاني. ولم تظهر أي حركة جادة في إنجلترا خلال فترة حكمها ضد الملكية. ومن خلال الوقوف فوق القوة الحزبية المشاكسة، كان باستطاعة الملكة وحدها توحيد صفوف الأمة في أوقات الفرح أو التوتر الوطني. خلال عمليات التباعد الاجتماعي القاسية خلال فترة الجائحة، جاء التناقض بين الملكة ذات الثياب السوداء، والمنضبطة دوماً، والمثالية دوماً، وهي تجلس وحيدة بشكل مؤلم في كنيسة سانت جورج في جنازة زوجها من ناحية، والحفلات التي تخرق قواعد الإغلاق التي أقامها في اليوم السابق بوريس جونسون داخل «داونينغ ستريت»، بمثابة توبيخ أخلاقي صامت لا يُمحى. ونجح خطابها الملتفز من داخل فقاعة للحماية من فيروس كوفيد، من داخل وندسور، في بث شعور فوري بالأمان في صفوف الإنجليز. وحرصت على أن تخبر شعبها بأنه: «سنلتقي مجدداً»، في إشارة إلى أجزاء الحرب العالمية الثانية. وبصفتها آخر ملكة متوجة شاركت في الحرب العالمية الثانية وتعلمت خلالها إصلاح السيارات والشاحنات بوصفها عضواً في «الخدمة الإقليمية المساعدة» ـ بالنسبة للملكة، كانت ذكرى الحرب العالمية الثانية لا تزال شخصية. وعن هذه الفترة، أخبرني أحد مساعديها السابقين بأن فترة الجائحة أعادتها على الفور إلى أجواء الحرب العالمية الثانية. وقال: «بالنسبة لها، كانت مجموعة من صديقاتها على متن قوارب، وهبطن على الشواطئ ودخلن فرنسا. ولم يكن لديها أي فكرة عما إذا كانت ستراهن مرة أخرى». من دون الملكة، كيف سيعرف أي شخص كيف يصبح بريطانياً بعد الآن؟ في الواقع، كانت الملكة آخر شخص دمث الخلق ويحسن التصرف في المعاملات في خضمّ عالم قاسٍ وخشن. وفي قلب صخب النرجسية في كل مكان، جاء رفضها اللطيف لفرض آرائها أو تبرير اختياراتها ليخلق مناخاً عاماً من الهدوء والطمأنينة. وكذلك كان روتينها وكلابها وخيولها وحجابها. وكان بمقدور الجميع معرفة المواسم التي تقيم خلالها في قصر أو قلعة بعينها وخلال أي شهر: ساندرينغهام لعيد الميلاد، ووندسور في يونيو. كانت جذور الملكة راسخة في الأرض لدرجة أن موتها تركنا ندور في الفراغ. وكانت الحيوانات الأقران العاطفيين الحقيقيين للملكة، فلم تهتم هذه الحيوانات بمرتبتها، وإنما أحبتها لنفسها ولم تملها أبداً. وخلف الكواليس، كان لدى الملكة إحساس جاف من السخرية. على سبيل المثال، في أثناء التخطيط لاحتفالات اليوبيل الذهبي، سأل أحد المساعدين ما إذا كانت تنوي ركوب «عجلة لندن» المشيّدة حديثاً، فأجابته: «أنا لست سائحة». كان سبب موافقتها على الظهور في حجاب مع دانيال كريغ في دور جيمس بوند في أولمبياد لندن 2012 كمزحة لأحفادها. لم تخيب الملكة إليزابيث الآمال قط. وخلال الشهور التسعة الأخيرة هيمن على البريطانيين شعور بالدهشة والانبهار إزاء قدرة الملكة على مكافحة اعتلال حالتها الصحية، لتواصل الاضطلاع بأداء واجباتها بنفسها وبنفس الالتزام الراسخ. وتبدو حقيقة أنه قبل خمسة أيام من وفاتها، فكرت الملكة الواهنة في حضور تجمع برايمار، وهو مسابقة سنوية تدور حول شد الحبل ورمي الكابينة. إلا أن الملكة نفسها لم ترَ الأمر بهذه الطريقة، وكثيراً ما يغيب عن أذهان الآخرين كيف أنها كانت تعشق عملها. وكانت العضو الوحيد في العائلة المالكة (ربما باستثناء الأميرة آن) التي لم تجد أن الجدول الزمني المتواصل للواجبات الملكية عمل روتيني مذهل للعقل. وكثيراً ما كانت إليزابيث تفضل الانعزال داخل مكتبها لقراءة الرسائل التي تَرِد إليها داخل صناديق البريد الحمراء الشهيرة، في الوقت الذي تركت مهمة التحكيم في النزاعات الفوضوية التي تستعر داخل صفوف عائلتها الجامحة للأمير فيليب. ومن شخصيتها المترددة في سنواتها الأولى على العرش، تطورت الملكة لتصبح رئيسة تنفيذية عظيمة لمؤسسة ملكية بريطانية عمرها يمتد لأكثر عن 1000 عام. وبالنظر إلى إليزابيث الأولى وفيكتوريا وإليزابيث الثانية، يتضح أن المرأة شديدة البراعة في هذه الوظيفة. وبفضل اهتمام الملكة بهذه الصناديق الحمراء، واهتمامها الشديد بتفاصيل الحكومة، كانت دوماً على استعداد كامل للقائها الأسبوعي مع رئيس الوزراء. وأخبرتني إحدى الشخصيات البارزة الزائرة التي تحدثت معها بعد فترة وجيزة من حريق برج غرينفيل الكارثي عام 2017 في غرب لندن أنه «لو كانت الملكة موظفة في مجلس الوزراء، كنت لتنظر إليها بوصفها مسؤولة ذات مستوى رفيع للغاية من الاطلاع على نحو استثنائي». في الأشهر التي سبقت تتويج الملكة إليزابيث الثانية، وجد الأمير تشارلز الذي كان يبلغ حينها من العمر أربع سنوات، والدته جالسة على مكتبها مرتدية التاج الإمبريالي الذي يسبب الصداع والألم والمرصع بـ2868 ماسة وياقوتة ضخمة بحجم بيضة الدجاجة. وأوضحت الملكة أن التاج ثقيل للغاية، وأنها تريد أن تعتاد على ارتدائه. لقد أدركت إليزابيث الثانية وزن التاج بالمعنيين الحرفي والمجازي. * صحافية بريطانية * خدمة «نيويورك تايمز»

مشاركة :