عندما تصل إلى باب شرقي أحد بوابات دمشق السبع التاريخية وهو الأكمل بينها مع باب توما قادماً من الشارع المستقيم الذي يعود تاريخه لألفي عام مضت وعندما تدلف من تحت الباب الشرقي لابد وأن تقف ولبرهة من الزمن مسترجعاً الدقائق التي سرت بها في حضن التاريخ خاصة وأنك ستنطلق نحو مناطق دمشق الجديدة بأبنيتها الإسمنتية وشوارعها الاسفلتية، ولكن ما إن تعبر النفق الحديث وتصعد للطرف المقابل من الشارع المواجه لباب شرقي حتى يواجهك منظراً جميلاً يعيدك من جديد للتاريخ والتراث حيث تستقبلك دلّة قهوة نحاسية عملاقة وبجانبها بحرة ونافورة ماء وتعلوها ثريا جميلة مصنعة جميعها بشكل يدوي من النحاس المعتّق، تدخل المكان تدهشك المعروضات والمقتنيات وتتوه وأنت تنظر فيها أين ستركز نظرك هل على الجدران أم على الأرض أم على الأسقف فجميعها تزدحم وتضج بمئات التحف النحاسية التراثية وبأشكال وأحجام مختلفة وتسأل نفسك ما كل هذا الجمال والغنى في الزخارف؟!..ولن تنتظر طويلاً ليجيبك صاحب المعرض والورشة الحرفي السوري أحمد راتب ضعدي (أبو عصام) أن ما تراه ليس سوى جزءاً يسيراً مما أنتجه في ورشته اليدوية بمجال التراث الشرقي الدمشقي فالكثير من منتجاته تنتصب واقفة أو معلقة في أرقى الفنادق والمطاعم والمولات التجارية في العديد من الدول العربية وخاصة الخليجية منها كالإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والكويت وقطر وأبراج دبي وفي مداخل الفلل والمزارع الخاصة في هذه البلدان وغيرها. ويسهب أبو عصام الضعدي بالشرح عن إبداعاته التراثية وخاصة النحاسية منها من خلال مشغله الدمشقي الذي ورثه كما ورث المهنة عن والده وأسرته "معظم منتجاتي اليدوية من النحاس حيث حاولت من خلالها إعادة إحياء التراث الدمشقي مع لمسات معاصرة أثناء تصميمي لهذه المنتجات والتي تتضمن بشكل رئيسي الفوانيس والثريات والبحرات التزيينية وهناك مثلاً بوابير الكاز التراثية والتي كانت منتشرة في دمشق قبل أكثر من نصف قرن وتوقف العمل بها مع دخول الكهرباء ومواقد الغاز، لقد عملت على تصميمها من جديد ولكن بنمط معاصر حيث حولتها لقطعة فنية يمكن أن تعلق على الجدران أو في السقف وتضيء بشكل متميز من خلال تزويدها بمحرك بسيط يجعل الضوء داخلها يتحرك بشكل موسيقي وكأنه راقصة باليه!... كذلك أعدت تصميم الفوانيس الاسلامية التراثية بما يتماشى مع العصر الحالي ولكنني جعلتها تضج بالزخارف والرسومات حتى تبقى محافظة على تراثيتها و شرقيتها، فعملت على زخرفتها يدوياً بأسلوب التخريق وبالخطوط الهندسية والزخارف الفاطمية والمملوكية والخط العربي وهناك كتابات تتضمن آيات قرآنية وحكم وأمثال، وذلك لتلبية رغبات وأذواق جميع الناس الذين سيعرضون مثل هذه المنتجات اليدوية في منازلهم أو في الفنادق والمطاعم". وماذا عن تقبل الناس لهذه الأشياء المنقرضة؟ يجيب أبو عصام وهو يلّمح إلى أن مسلسلات البيئة الشامية التلفزيونية جعلت الكثير من الناس يعودون بذوقهم في تصميم منازلهم إلى التراث القديم من خلال ما شاهدوه من مقتنيات منزلية وغيرها في هذه المسلسلات ومنها النحاسيات الشرقية، تصوّر ـ يطلب أبو عصام منّا أن نندهش معه!.. ـ كان بابور الكاز النحاسي لا يعرف أصحابه كيف سيتخلصون منه حيث ورثوه عن أسرهم فيرمونه في الحاويات أو يبيعونه بأبخس الأسعار في سوق النحاسين ولكن الآن صار هؤلاء يتمسكون به ويعرضونه في زوايا صالونات منازلهم كتحف جميلة، وهناك من أعاد العمل عليه بسبب أزمة توفر المحروقات والغاز.. هناك الفوانيس بمختلف تصاميمها أقوم بتنفيذها ـ يتابع أبو عصام ـ والتي تبدأ من ضوء السراج وحتى الفانوس الذي كان يطلق عليه في حارات دمشق القديمة اسم(الدومري) وهي تسمية للشخص الذي كان موظفاً براتب شهري يأخذه من أهل الحارة أو من البلدية فيما بعد كما هو حال الحارس الليلي حيث يعمل على إشعال أسرجة الحارة فيضيء الأزقة فيها وذلك قبل أكثر من مئة عام إذ لم يكن هناك كهرباء في دمشق ولذلك مازال المثل الدمشقي الشائع بين الناس والذي يقال في الليالي الماطرة والمثلجة والعاصفة (ما في الدومري بالحارة) أي الحارة خالية من الناس حتى من الشخص المطلوب منه أن يضيئها بالفانوس؟!..وبعد سراج الحارة صار هناك فانوس المنزل فصار السراج يأخذ شكلاً تزيينياً في تصميمه ليتناسب مع مكونات المنزل ومن هنا صرنا نتفنن بتزيين الفانوس بمختلف الزخارف الشرقية ولذلك تحول الفانوس من وظيفته الأساسية في الإضاءة إلى شكل متحفي يعرض في البيوت ودور العبادة والمنشآت السياحية وغيرها، ويوضح أبو عصام أن هناك تصاميم مختلفة للفوانيس فمنها المربعة والدائرية والمثمنة والإثني عشرية والمدلاة وهناك تصميم خاص بالبيوت الشامية التقليدية يطلق عليه اسم(ليوك) وهو عبارة عن قنديل مرتكز على قاعدة ويعرض في فتحات جدارية داخل غرف البيت وفي الأواوين، وهناك الفانوس الجداري النازل والفانوس البلبل كما صممنا فوانيس ضخمة من النحاس مضاءة تعرض في صالونات المنازل ومداخل القصور والمولات التجارية وغيرها كتحفة متميزة حيث قمنا بتنفيذها من نحاس وزجاج ملوّن يدوي الصنع فتعطي إضاءة تضج بمختلف الألوان من الأزرق وحتى الأحمر والأخضر وغيرها تصدر من الزجاج الملون المعالج في الأفران لكي يتحمل الحرارة أو البلاكسي الملون (بلاستيك خاص) متحمل للماء والأمطار والحرارة، وهناك الفانوس المسمى "آبليك" وهو نصفي جداري يكمل نصفه الأول نصفه الآخر بتصميم فني جميل. ولزيادة الزخم التراثي وحميمية المكان ومتعة الفرجة في بازاره (معرضه التراثي) يعرض أبو عصام أدوات منقرضة أو في طريقها للانقراض تعيد الزائر لسنوات خلت حيث الزمن الماضي الجميل ومنها آلات الخياطة اليدوية الصغيرة التي كانت واحدة من أساسيات منزل المرأة الشامية تخيط بها ملابس بسيطة لأفراد أسرتها أو مستلزمات فرش منزلها كأغلفة الوسائد وغيرها، وهناك المدافئ والمكاوي التي تعمل على الفحم والصناديق الخشبية المزخرفة بالصدف وغيرها ـ يتنهد أبو عصام ـ هذه الأدوات غالية على نفسي أعرضها أمام الزوار والسياح ولا أنوي بيعها مطلقاً لا يمكنني تعويضها أبداً، لقد تركتها للعرض وليشاهد الناس مفردات الماضي القريب!.. أخيراً وللحفاظ على هذه المنتجات الدمشقية الشرقية اليدوية الصنع ولضمان استمرار العاملين بها يؤكد ضعدي أنه وزملائه الحرفيين في هذا المجال أطلقوا جمعية أهلية باسم "شام الياسمين لحماية التراث والمهن اليدوية".
مشاركة :