محمد الحداد مفكر تونسي مهووس بترصد الأسئلة الجارفة آملا في الوقوف على أطراف المعنى، يتبصر في القراءات بعقل المجتهد الخالي من سقم العرفانيات والمطلقات والكليات وهذيان التأملات، واحد ممن يبقى الحديث إليهم في كل مرة أقرب إلى حقنة من الأفكار النقية في عالم تسوده الرداءة والتسطيح والبهرجة. أكاديمي أفرد سنوات من عمره لنشر التنوير في العالم العربي والاسلامي كاتبا ومحاضرا، أغنى الخزانة العربية والعالمية (الفرنسية والإيطالية والإنجليزية) بمؤلفات منها، "حفريات تأويلية في الخطاب الإصلاحي العربي" (2002)، "مواقف من أجل التنوير" (2005)، "الاسلام نزوات العنف واستراتيجيات الإصلاح" (2006)، "ديانة الضمير الفردي ومصير الإسلام في العصر الحديث" (2007)، "التنوير والثورة" (2014).. "الاقتصادية" تلتقي صاحب كرسي اليونسكو للديانات المقارنة، ورئيس المرصد العربي للأديان، والحريات وتحاوره عن الواقع العربي والعالمي بعد مضي عقد ونصف من الألفية الثالثة، وتتلمس معه خيط المعنى المعرفي في زمن الفهلوة والأدلجة. العنف يحاصر العالم المعاصر هل نتجه فعلا إلى قرن آخر من التطرف بعد أن اعتبر المؤرخ إيريك هوبزباوم القرن العشرين "عصر التطرفات"؟ بدأ القرن العشرون بالتطرف الذي أدى إلى الحرب العالمية الأولى ثم الثانية، مرورا بمآسٍ فظيعة في المستعمرات أو داخل الغرب نفسه تجاه بعض الأقليات، ثم انتهى القرن بتفاؤل مبالغ فيه عبر عنه أفضل تعبير الكاتب الأمريكي ذي الأصول اليابانية فرنسيس فوكوياما في كتابه المشهور "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، وفيه افترض أن العالم سيتوحد حول الليبرالية وسيفتح الحدود والأسواق وسيحقّق الخير الوفير للجميع، إلا من قرر أن يبقى من تلقاء نفسه على هامش الفردوس الليبرالي. بضع سنوات كانت كافية للاقتناع بأننا نواجه وضعا جديدا لا يقلّ خطرا، فالقرن الحادي والعشرون بدأ بالفوضى ومن المرجح أنه سيكون قرن الفوضى. والإرهاب وجه من وجوه الفوضى لأنه ظاهرة غير محددة المعالم والأهداف، لا يرتبط بمكان ولا مجموعة معينة ولا بمطالب قابلة للتفاوض، والحرب على الإرهاب هي حرب عالمية من نوع جديد، حيث العدو غير محدد والضحية يمكن أن تكون أي شخص في أي مكان وأي زمان. ويوم 13/ 11 قتل في باريس سياح كانوا يتغدون في مطعم تايلاندي. من الذي كان يستطيع أن يتكهن أن الإرهاب العائد من سورية سيضرب مطعما تايلانديا في عاصمة أوروبية؟ هذه هي الفوضى الإرهابية المعولمة. وكما جرت مواجهات الحربين العالميتين على رؤوس الأبرياء فكذلك الإرهاب يبدو شيئا غير قابل للتوقع. لكن الإرهاب ليس إلا الجزء الظاهر من الفوضى، فهناك مظاهر أخرى كثيرة تتصل بالاقتصاد والبيئة والحوكمة... إلخ. في كتابكم "الإسلام.. نزوات العنف واستراتيجيات الإصلاح" تطرحون حلا بثلاثة مداخل معرفية لإصلاح الواقع العربي؛ وهي "العقلية التاريخية"، "التفكير الاستراتيجي" و"النسبة التاريخية" هل لا تزال هذه المداخل صالحة اليوم؟ العقلية التاريخية هي التي تفكر في حدود الممكن وبهدي التجربة التاريخية الواقعية للبشر، والتفكير الاستراتيجي هو التخطيط على المدى الطويل وعدم الاكتفاء برد الفعل والتعامل الانفعالي والمواجهة العاطفية، والنسبية الدينية هي الإقرار بتعدد المعتقدات وتنوعها بين البشر واحترام المختلفين عنا. هذه المداخل كانت ضرورية ولا تزال كذلك، وكانت الثقافة السائدة بعيدة عنها وما زالت تزداد بعدا. ألا يمكن اعتبار المقاربة الاستراتيجية عملية بناء تحمل الكثير من المفاجآت والنهايات اللا متوقعة؟ كما أن النسبية الدينية قد تحتاج إلى خرائطية عملية لتحديدها المعرفي؟ المفاجأة جزء من التوقع. التفكير الاستراتيجي يعمل على أساس رسم فرضيات متعددة، وتحديد مسالك التعامل مع كل فرضية وضبط طرق الانتقال من فرضية إلى أخرى. إمكانية أن يسقط تفكير قائم على فرضية واحدة هي دائما أكبر من إمكانية أن يسقط تفكير قائم على تعدد الفرضيات. وبالتالي، فإن نسبة المفاجأة تكون أضعف في الحالة الثانية. أما بالنسبة إلى القضية الدينية، فهي متاحة معرفيا، والعائق غير مرتبط بالمعرفة بل بالإرادة والاقتناع. كما يصاغ النظام العالمي في وجهه الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي صياغة جديدة وعلى أسس مختلفة. فكذلك يخضع النظام الديني العالمي للحركية نفسها. والفترة الحالية للإسلام تشبه فترة انهيار الخلافة في بداية القرن الـ «20". كانت هذه قراءتكم لواقع الإسلام اليوم، هل المسألة لا تزال منحصرة في الشبه فقط، أم أنها بدأت تتخذ صورا أكثر وضوحا وتفردا وواقعية؟ في بداية القرن العشرين، انهارت الخلافة. وفي بداية القرن الحادي والعشرين عادت فكرة الخلافة وإقامتها من جديد، إما سلميا كما ترغب حركات الإسلام السياسي أو بالعنف والإرهاب كما تفعل "القاعدة" و"داعش". نحن ندور في حلقة مفرغة ولا نتقدم. استراتيجيا، النظام العالمي قائم على توجه الغرب بقيادة الولايات المتحدة إلى محاصرة روسيا والصين لأسباب مختلفة بين الحالين، باعتبار الأولى قوة مارقة والثانية عملاق اقتصادي مهدد. ودينيا، يسعى هذا النظام إلى توظيف الإسلام في هذه المواجهة ودفع المسلمين ليكونوا وقودا لهذه المواجهة التي لا فائدة سيجنون منها. الحديث ذو شجون معكم دكتور في هذه الموضوعات، لنعد الآن إلى بلدك تونس. كيف يرى الحداد الواقع التونسي من موقعه كمتابع ومثقف عضوي بالتعبير الغرامشي للكلمة؟ توصيف الوضع التونسي سهل نسبيا، لقد انتقلنا من نظام الحزب المهيمن إلى نظام المال المهيمن. مثلما حصل في أوروبا الشرقية، لم تنشأ طبقة سياسية جديدة، وإنما تضخم دور حفنة من أصحاب الملايين، وأصبح كل منهم يسير في الكواليس حزبا أو شقا من حزب. السياسة أصبحت مثل البورصة، لا أحد يفهم منطقها إلا المضاربون وأصحاب الأسهم والفوائد. هل أنت متفائل بالمستقبل ونحن في بداية سنة جديدة؟ أنا دائما متشائم، حسب العبارة المشهورة لإميل حبيبي، هذا خيار وجودي وفلسفي أيضا. أخيرا، وكالعادة مع ضيوف "الاقتصادية"، ماذا تعني هذه الكلمات في إجابات مختصرة للدكتور الحداد؟ ثورة الياسمين، الثورة انطلقت من الوسط والجنوب حيث لا ينبت الياسمين. - مقارنة الأديان، الأصح أن نقول الدراسة المقارنة للأديان وقد أصبح يحوم حولها اليوم كثير من الانتهازيين والجهلة والدعاة والمبشرين. - التنوير، المشروع الذي سندافع عنه إلى الرمق الأخير.
مشاركة :