يبدو أن الفهم العام في مجتمعنا ومعظم المجتمعات الشرقية، يميل إلى نبذ الفردانية كقيمة، وإعلاء شأن الجماعة، على نحو قد يلغي أي قيمة لوجود الفرد واستقلاله. في مجادلة هذه الرؤية، ينبغي التمييز بين مقاربتين مختلفتين لمسألة الفردانية: أ) المقاربة الأخلاقية/ القيمية، التي تستهدف الحكم على المبدأ. نعرف أن عامة الناس ترى أن قيمة الفرد وهويته مستمدتان من تمثله للتيار الاجتماعي العام واندماجه فيه. بينما يميل الفردانيون إلى اعتبار الفرد كونا مستقلا، وأن علاقته بالمجتمع عرضية. وبناء عليه فكلا الاتجاهين يؤسس منظومته الأخلاقية والقانونية تبعا لإحدى القناعتين. ب) المقاربة العلمية التي تستهدف كشف العوامل المؤثرة في علاقة الفرد بالجماعة، حيث يتفق الباحثون على أن جانبا معتبرا من ذهنية الفرد وسلوكه اليومي انعكاس لتأثير علاقته بالمجتمع. لكنهم يختلفون في حدود هذا التأثير، هل هو كلي أم جزئي؟ وهل هو معروف للفرد وبالتالي طوعي، أم أنه غير مدرك وينطوي بالتالي على نوع من الجبر؟ تستهدف المقاربة العلمية كشف طبيعة الواقعة الاجتماعية، وتحديد ما إذا كانت مجموعة أفعال متشابهة لمجموعة أفراد يمكن تفكيكها، أو أنها فعل واحد لكتلة اسمها المجتمع، بغض النظر عن أفعال الأفراد وتمايزاتهم. نعرف أن معظم الجدل الاجتماعي يتناول المقاربة الأولى. فالذين عارضوا الفردانية على أساس أخلاقي، ركزوا على كونها غطاء أو مبررا للأنانية. وهم على حق في القول بأن الفرد لا ينمو وملكاته لا تتطور في معزل عن الجماعة. ولهذا فليس من الأخلاق التنكر لها بعدما شب الفرد عن الطوق، وبات قادرا على المساهمة في حياة الجماعة وارتقائها. أما دعاة الفردانية، فرأوا أن استقلال الفرد ذهنيا وروحيا عن الجماعة ضروري، لجعل مساهمته في حياة الجماعة أكثر جذرية وتأثيرا. وهم يقولون إن أهم التطورات في حياة البشرية، حققها أفراد تمردوا على الأفكار والمسلمات السائدة. ولولا أنهم تجاوزوا بخيالهم وطموحهم حدود المشهود والمتعارف، لما أبدعوا جديدا. جميع المبتكرين والمفكرين وقادة الأمم، كانوا من هذا النوع من الأفراد الذين تجرأوا على مخالفة السائد، وذهبوا وراء ما اعتبره غيرهم تخيلات وأحلاما أو ربما أوهاما سخيفة. يرى هؤلاء أن مساهمة الفرد الذائب في الجماعة، ليست سوى تكرار لما يفعله آلاف الناس وما فعلوه في الماضي. بينما يوفر استقلال الفرد بفكره وتطلعاته وقيمه، فرصة لخيارات جديدة واحتمالات غير مألوفة، وهذا ما ينتج التقدم على مستوى الجماعة، وأحيانا على المستوى الكوني. جوهر الإشكالية إذن هي كينونة الفرد القائمة بذاتها والمستقلة عن أي رابطة اجتماعية. هذا ليس إنكارا لقيمة الجماعة ومساهمة الفرد في حياتها، بل هو مجرد تأكيد على أهليته وحقه في إنكار إرادة الجماعة، إذا قررت شيئا يتنافى مع قناعاته تنافيا حديا، وحقه في اختيار ما يحقق تطلعاته من نموذج حياة أو معتقد أو منهج تفكير، ولو كان غير متعارف. نحن إذن نتحدث عن الحاجة لوضع خط واضح يميز بين ما نعتبره رابطة عقلانية تشد الفرد إلى الجماعة، وبين الانصهار الكلي الذي قد يقود لتبعية عمياء تذيب ذاتية الفرد وتلغيها. جوهر المسألة إذن هي القولبة والتنميط القسري الذي يلغي ذاتية الفرد، ويحوله من رقم قابل لأن يكبر وينتج، إلى صفر يضاف إلى أرقام أخرى هي الدولة أو الجماعة أو الطائفة أو السوق.
مشاركة :