في السادس عشر من أيلول (سبتمبر) الجاري قتلت الشابة الإيرانية البالغة من العمر اثنين وعشرين عاماً مهسا أميني في المستشفى بعدما دخلت في حالة غيبوبة دماغية (كوما)، إثر اعتقالها على أيدي شرطة الأخلاق الإيرانية التابعة لقوات "الباسيج" أي الجناح شبه العسكري لـ"الحرس الثوري" الإيراني في أحد شوارع طهران، بتهمة عدم لبس الحجاب بطريقة لائقة، واقتادتها الى مركز شرطة حيث بدا أنها تعرضت للضرب المبرح في سيارة الشرطة التي نقلتها ثم في المركز. نقلت مهسا الى المستشفى ثم توفيت. هذه الحادثة كان يمكن أن تمر مثل العديد من مثيلاتها التي شهدتها وتشهدها ايران على مدار الساعة في معظم المدن. هذه المرة كانت وفاة مهسا الشرارة التي أطلقت ثورة عارمة على امتداد ايران في العشرات من المدن والبلدات الإيرانية، حيث لم تتوقف التظاهرات الشعبية، لا سيما تلك التي قادتها شابات إيرانيات من الفئة العمرية التي لا تتجاوز الخمسة وعشرين عاماً. عشرات، لا بل مئات التظاهرات المنتشرة في احياء المدن الكبرى مثل طهران وأصفهان ومشهد وقم وغيرها، كلها بدأت في الساعات الأولى حاملة شعار التنديد بقتل مهسا أميني التي قتلها رجال النظام، وسرعان ما تحولت الى التنديد بـ"الديكتاتور" أي المرشد علي خامنئي، ثم بالنظام ورموزه وشخصياته التاريخية والرمزية مثل مؤسس الجمهورية الإسلامية الإمام الخميني وقائد "فيلق القدس" التابع لـ"الحرس الثوري" قاسم سليماني الذي قتل في غارة أميركية في بغداد في مطلع العام 2020، الى ما هنالك من شعارات داعية الى الثورة والحرية والكرامة ومواجهة النظام الثيوقراطي المهيمن على إيران منذ انتصار "ثورة" الخميني عام 1979. تمثل هذه التظاهرات الواسعة النطاق حدثاً مفاجئاً. وهي تأتي بعد نحو أربعة أعوام على انتفاضة رفع أسعار المحروقات التي أغرقها النظام آنذاك بالدم فحصد أكثر من ألف وخمسمئة ضحية من أجل أن يوقفها، ونجح. في البداية لم يكن المراقبون، ونحن منهم، يتوقعون أن تتطور الأمور إلى هذا الحد. لقد ظننا أن المسألة ستكون محدودة النطاق والأثر، ولا تتعدى البعد الاحتجاجي على قتل الشابة أميني، ثم تنتهي نظراً الى قوة النظام ويده الفولاذية التي تمسك بالأرض في أرجاء إيران، فضلاً عن أن القوانين التي ترعى اللباس في إيران جرى تقبلها لمدة طويلة خلال عهد الجمهورية الإسلامية. كان مفاجئاً لمن تابع كيف أن النظام، ومن خلاله الدولة، قد اتجه في العامين الماضيين صوب الراديكالية الشاملة اثر حسم سيطرة المحافظين على البرلمان الإيراني، وثم إيصال إبراهيم رئيسي (الذي انتقل من رئاسة السلطة القضائية) الى رئاسة الجمهورية وبالتالي الى السلطة التنفيذية. كل هذا في الوقت الذي جرت "تنقية" مؤسسات النظام المؤطرة لعمل الدولة على مختلف الصعد من القوى الإصلاحية أو "المشبوهة" بميولها الغربية. كل هذا بتدبير من التحالف الوثيق القائم بين المرشد علي خامنئي وخلفه المؤسسة الدينية المحافظة الأصولية والمؤسسة العسكرية الأمنية التي تمثلها بشكل عام مؤسسة "الحرس الثوري"، وهي إطار واسع يتعدى الإطار العسكري – الأمني ليشمل بعداً اقتصادياً ومالياً، والآن دينياً بعد وصوله قبل أعوام الى قم واختراقه الحوزات. هذه الراديكالية التي أمسكت بالنظام في مرحلة من أصعب المراحل اقتصادياً واجتماعياً، قد تكون أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت من قضية مهسا أميني قضية تجاوزت حدود الاحتجاج لتصير على عكس كل التوقعات، ثورة يمكن تسميتها "ثورة المرأة" التي أشعلتها النساء الشابات في شوارع المدن والبلدات، وانضم إليها الشبان، والآن عدد كبير من مختلف الشرائح العمرية في البلاد. كل ليلة تتحول مئات المدن والبلدات الإيرانية الى مسارح لتظاهرات ثورية معادية للنظام ولكل ما يرمز اليه، ويواجه آلاف الشباب قوات الأمن و"الباسيج" بشجاعة نادرة. ويوماً بعد يوم، ورغم سقوط عشرات القتلى برصاص قوات النظام، لم يتراجع زخم الشارع الذي بات واضحاً أنه لم يعد يخرج من أجل مهسا أميني فحسب، بل من أجل كل "مهسا أميني" في كل إيران. أصبحت الشابة الآتية في زيارة سياحية الى طهران من الشمال الإيراني عنواناً للثورة من أجل حقوق المرأة الإيرانية، لكن الأهم أنها ثورة اجتماعية عارمة بعناوين متعددة: ثقافية، إنسانية، ودينية. كما أنها ثورة سياسية ضد النظام برمته. وهي تكشف حدة الأزمة الداخلية التي يعاني منها النظام الهارب من أزماته إلى الخارج لتنفيسها بمواجهات مع الخارج، وبحروب متنقلة، فيما هموم المواطن الإيراني في مكان آخر. إنها ثورة بوجه النظام بمؤسسته الدينية الهرمة التي يتحكم بها رجال دين معظمهم باتوا تجار دين وأصحاب ثروات خيالية، ونسبة أعمارهم مرتفعة جداً. كما أنها ثورة بوجه المؤسسة الأمنية – العسكرية التي حولت إيران إلى مملكة صمت، وجعلت من الاعتراض مناسبة لإزهاق الأرواح. ففي كل مرة خرج فيها الشارع ثائراً أغرقه النظام بالدم. ومن هنا الخشية من إغراق الثورة التي تحصل تحت أنظارنا في إيران بدماء الشابات والشبان الثائرين على مؤسستي القمع الدينية والعسكرية الممسكتين بمصير مئة مليون إيراني. توقعاتنا ألاّ يتأخر النظام كثيراً قبل أن يواجه الثورة العارمة الحالية بمزيد من العنف حتى لو أدى الأمر إلى قتل المئات. المهم بالنسبة إلى المؤسسة بقاؤها. ولا حدود للثمن الذي يدفع من أجله. ففي النهاية سيتخذ القرار. لكن كيف سيكون رد فعل المجتمع الإيراني والأكثرية الصامتة على جولة النظام المقبلة من العنف والدم؟
مشاركة :