هل وقعت الواقعة التي ليس لوقعتها كاذبة في تركيا؟ سؤال طرح بقوة في الأسابيع الأخيرة بعدما فرضت الاشتباكات اليومية بين الجيش التركي ومقاتلي حزب العمال الكردستاني نفسها على اهتمامات المسؤولين الأتراك فضلاً عن المحيط الإقليمي والدولي لتركيا. هذه المعارك بدأت منذ أكثر من شهرين. ولكنها احتدمت وتصاعدت وتيرتها في الشهر الأخير من العام المنصرم أي عام 2015. خصوصية هذه المعارك أنها تتمركز في المدن الكردية في جنوب شرقي تركيا ولا سيما في كبرى المدن مثل ديار بكر وشيرناق وصور وحقاري وغيرها. وتتميز هذه المعارك بمشاركة الطيران ولا سيما الطوافات، والدبابات والمصفحات وسائر أنواع الأسلحة الأخرى من جانب الجيش التركي. في المقابل يعتمد المقاتلون الأكراد على القذائف الصاروخية والأسلحة الرشاشة، بحيث إن موازين القوى يميل بالطبع لمصلحة الجيش التركي. ميزة المعارك الحالية أنها تحصل داخل المدن. أي أنها حرب مدن بكل معنى الكلمة. وقد استعد الأكراد على ما يبدو لهذه المعارك جيداً بتكديس الأسلحة المختلفة المتناسبة مع حرب المدن. إذ إن الجيش التركي يفرض حالة حصار في المدن التي تحدث فيها المعارك منذ بدء الأحداث بحيث يتعذر على الأكراد أن يدخلوا أسلحة إليها، أي أن الأكراد ربما كانوا كدسوا الأسلحة قبل وقت طويل من ذلك. كما استعد المقاتلون الأكراد من خلال حفر خنادق ورفع السواتر الترابية والمعدنية في الشوارع لمنع تقدم الجيش التركي في أحياء المدن. المعارك أسفرت عن عدد كبير من القتلى في صفوف الأكراد والجيش التركي، كما قتل العديد من المدنيين الأكراد وهجر الآلاف من السكان وتدمرت عشرات المنازل. المقاتلون الأكراد وهم من حزب العمال الكردستاني يخوضون حرباً بدعم من السكان. أي أن البيئة التي يتواجدون فيها هي بيئة حاضنة. لم ترتفع أصوات كردية تعترض على مقاومة حزب العمال الكردستاني. وهذا يفتح على جوهر المسألة التي تمر بها المسألة الكردية اليوم في تركيا. يوم السبت في 26 ديسمبر/كانون الأول عقد مؤتمر المجتمع الديمقراطي وهو أحد التيارات الأساسية في حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، مهرجاناً حاشداً في ديار بكر حضره قادة الأكراد وفي مقدمتهم رئيس الحزب صلاح الدين ديميرطاش. وفي هذا المهرجان، خرج المجتمعون بوثيقة تاريخية تعكس المطالب الكردية الأساسية في المرحلة المقبلة. الوثيقة بالطبع طويلة وتتناول عدداً كبيراً من القضايا والعناوين يمكن اختصارها بمطلب أساسي وهو توزيع تركيا إلى أقاليم ذات حكم ذاتي منها إقليم خاص بالأكراد في مناطق الجنوب الشرقي. ومع أن هذا المطلب ليس جديداً في أدبيات الأكراد، غير أنه يكتسب اليوم طابعاً رسمياً من جانب حزب ممثل في البرلمان هو حزب الشعوب الديمقراطي الكردي. تعرض الوثيقة التفاصيل الدقيقة للحكم الذاتي أو مطلب الإدارة الذاتية. ومن ذلك تشكيل شرطة خاصة بالأكراد ومحاكم خاصة بهم وسيادة على ثروات مناطقهم. في المواقف الكردية التي صدرت بعد إعلان الوثيقة، كان التصريح أيضاً أكثر صلابة. رئيس الحزب ديميرطاش قال: إن الأكراد أمام ثلاثة خيارات إما القبول بنظام دكتاتوري في تركيا، أو بنظام حكم الشخص الواحد (أردوغان)، أو الحكم الذاتي. وقال أيضاً إن عدم اعتماد الحكم الذاتي أو الإدارة الذاتية يعني أن الخيار أمام الأكراد هو الانفصال. الوثيقة السياسية لحزب الشعوب الديمقراطي الكردي هي الوجه الآخر السياسي لوثائق حزب العمال الكردستاني، الذي يتولى الحرب العسكرية ضد الجيش التركي والدولة التركية وسلطة حزب العدالة والتنمية. عبد الله أوجلان رئيس حزب العمال الكردستاني المعتقل في جزيرة إيمرالي في بحر مرمرة في تركيا منذ عام 1999 كان يسعى إلى مطلب الدولة الكردية المستقلة. لكنه بعد اعتقاله طور رؤيته لمستقبل المسألة الكردية بالعمل على إقامة إدارة ذاتية أو حكم ذاتي بعيداً عن مطلب الانفصال الكامل. لكن أوجلان بدأ يطرح مشروع الكونفيدراليات الديمقراطية في الشرق الأوسط، والذي هو عبارة عن فيدراليات للأكراد في كل من تركيا والعراق وسوريا وإيران يشكل كل منها كونفيدرالية مع الدولة التي هم فيها من جهة ومن بعد ذلك كونفيدرالية بين الفيدراليات الكردية الأربع نفسها. وبهذه الطريقة يمكن للأكراد في الشرق الأوسط أن يستعيدوا وحدتهم الجغرافية والسياسية والثقافية وتتحقق الدولة الكردية الكبرى أو كردستان الكبرى. ربما شعر الأكراد في تركيا أن تجربة تحقق الدولة الفيدرالية الكردية في العراق يتيح لهم مزيداً من العزم للمضي قدماً في النضال من أجل فيدرالية مشابهة في تركيا. غير أن المشكلة هنا هي في الخلاف السياسي والصراع على الزعامة الكردية في المنطقة بين أوجلان ورئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني. فالبرزاني في كل الخطوات والمواقف لم يكن ذلك المؤيد لأوجلان، بل إن البرزاني عمل على تقوية موقف أردوغان في الداخل التركي بإظهار دعمه العلني لأردوغان عشية الانتخابات النيابية في عام 2011 أي أن البرزاني كان يقف في تركيا إلى جانب التركي ضد الكردي.. وهذه مفارقة كبيرة. هذا العامل كان يحول دون أن يحرز الأكراد في تركيا نجاحاً ملحوظاً على غرار ما حصل في العراق. كما إن أطلسية تركيا كانت تعرقل أن تقف واشنطن حتى النهاية مع أكراد تركيا. إذ إن أي مطلب فيدرالي أو انفصالي سيضعف تركيا ودورها في منظومة حلف شمال الأطلسي. كذلك فإن المعارضة التركية الصارمة لأي شكل من أشكل الحكم الذاتي والانفصال تمنع واشنطن من دعم الفيدرالية الكردية في تركيا، حيث إن الدولة في تركيا قوية بخلاف ما كان عليه العراق المحاصر والجائع والمقسم عملياً من قبل أن يحدث الغزو الأمريكي. أي أن أمريكا ستكون في مواجهة مع السلطة المركزية في أنقرة، وهو ما ليس في أهدافها في هذه اللحظة من المواجهة مع روسيا وإيران، التي تحتاج فيها إلى وظيفة تركيا الأطلسية والغربية. العامل السلبي للبرزاني يبدو أنه لن يثبط من عزيمة الأكراد في تركيا. إذ إن التطورات التي يشهدها الشرق الأوسط ولا سيما في سوريا ومنذ أكثر من ثلاث سنوات فرضت واقعاً جديداً ومستجداً ومهماً جداً. ففي سوريا برز دور قوات الحماية الكردية وعمودها الفقري حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي بزعامة صالح مسلم. وهذا الحزب هو الشقيق السوري لحزب العمال الكردستاني في تركيا. وقد حققت قوات الحماية الكردية في سوريا إنجازات مهمة، حيث كانت عدواً شرساً لتنظيم داعش واستطاعت أن تنتزع منه مناطق عدة في شمالي سوريا فيها أغلبية سكانية كردية. وبعد سنتين من المعارك كانت قوات الحماية الكردية في سوريا تسيطر على كامل المناطق الكردية وبعض المناطق غير الكردية في سوريا. وبات الشريط الجغرافي في سوريا من حدود العراق إلى نهر الفرات المحاذي للحدود التركية، إضافة إلى منطقة عفرين غربي حلب بيد الأكراد. أي أن تركيا أصبحت على تماس مع جار جديد هو قوات الحماية الكردية. أكراد سوريا أعلنوا إنشاء كانتونات أو إدارة ذاتية في هذه المناطق حتى قبل السيطرة على كامل الشريط الحدودي ومناطق كان يحتلها داعش. هذه التطورات شكلت دافعاً هائلاً لأكراد تركيا. إذ أصبح لهم قاعدة خلفية في سوريا هم الذين يجمعهم مع أكراد سوريا قيادة سياسية واحدة تتمثل في حزب العمال الكردستاني. من هنا مضى أكراد تركيا في الضغط على الحكومة التركية بهدف الارتقاء بمشروعهم للحكم الذاتي خطوة إلى الأمام. فمضوا في حرب مع الدولة التركية من جهة وأطلقوا مطلب الحكم الذاتي رسمياً. ربما لا تتوفر الآن الظروف المواتية لنجاح هذه الفكرة. لكن طرحها يفرض عنواناً جديداً على قائمة اهتمامات تركيا في انتظار أن تتحول تدريجياً إلى واقع وبند ثابت وفكرة غير وهمية. هذا يحدث للمرة الأولى في تركيا، من هنا يخشى الأتراك من هذا التطور ومن هنا كانت ردة الفعل الأولى لرئيسي الجمهورية رجب طيب أردوغان ورئيس الحكومة أحمد داود أوغلو، هي وصف الداعين لإقامة حكم ذاتي بالخونة والدعوة إلى محاكمتهم وإلى قطع التواصل مع مسؤولي حزب الشعوب الديمقراطي رغم أنه حزب سياسي شرعي وله 60 نائباً في البرلمان، بل إن أردوغان دعا إلى رفع الحصانة عن قادة الحزب وتقديمهم إلى المحاكمة وما يمكن أن يلي ذلك من أحكام بالسجن بحقهم وتداعيات ذلك نحو المزيد من التشدد. هل ينجح الأكراد الأتراك في مسعاهم الجديد إلى تحقيق مطالبهم؟ ليس من شيء اسمه مستحيل في عالم السياسة حتى لو كان عبارة عن تغيير في الحدود. وأزمات المنطقة أحدثت تغييرات كبيرة جداً لم تكن متوقعة أو في الحسبان قبل خمس سنوات فقط. وإذا كان لتركيا خصوصيات معينة داخلية ودولية تجعلها أكثر مقاومة للتحديات التي يمكن أن تواجهها غير أن المشكلة الكردية لا يمكن أن تقف عند حدود. بدءاً من العراق وصولاً إلى سوريا. ومع تصميم أكراد تركيا على المواجهة فإن أنقرة في وضع صعب جداً بين أن تتجاوب مع مطالب الأكراد بشكل جدي هذه المرة وبين أن تتواصل المعارك والتوتر واستنزاف الطاقات وزعزعة الاستقرار. أما المراوغة الرسمية في التعامل مع القضية الكردية، كما حصل منذ عقود ولا سيما في السنوات الأخيرة، فبات لدى الأكراد عملة قديمة ومكشوفة ولا تسمن. فما الذي ستقرره تركيا كي لا تسحب التطورات البساط كاملاً أو جزئياً من تحت قدميها؟
مشاركة :