قدم الأخوان مروان وغدي الرحباني، في المسرحية الملحمية الغنائية الفارس التي تستلهم قصائد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، عرضاً بصرياً غنائياً باذخاً، ليس على صعيد الحكاية الدرامية، ومتانة النص وجودته وحسب، وإنما على صعيد الغنائية البصرية على خشبة المسرح، حيث تحولت الخشبة إلى فضاء مشرع على مختلف الفنون الثابتة والمتحركة. وكشفت المسرحية التي جاءت من بطولة الفنانين غسان صليبا وبلقيس، عن جماليات بصرية تتمثل في سلسلة الاشتغالات والجهود التي قدمها الرحبانيان في الملحمة المسرحية. ظهر ذلك الاشتغال الغنائي على الصورة والعنصر البصري للعمل الملحمي بمستويات عدة، أبرزها الشاشة السينمائية التي شكلت خلفية العمل وحملت جانباً كبيراً من حكاية العرض، والثانية في السينوغرافيا التي ظلت تتقلب طوال العرض لتوفر الفضاء البصري المتكامل مع المكان والزمان الذي يمضي فيه العرض، فضلاً عن الحركة الحية للممثلين والكادر البشري الفاعل على الخشبة وخارجها. وتجلّت كل واحدة من هذه العناصر بصورة متكاملة ليصبح العمل ملحمة بصرية قوامها حركة الممثلين والشاشة السينمائية الضخمة، والسينوغرافيا، إلى جانب الأزياء، وجهود العمل على الإضاءة وتوظيفها، حيث أتاحت تلك العناصر المساحة الكاملة أمام الصورة، لتفرض حضورها وتنقل العمل من شكله المكتوب والمغنى إلى شكله المرئي. استند الرحبانيان في خلفية العمل المسرحي إلى الفيلم السينمائي المتجانس مع الفضاء المسرحي الحاضر على الخشبة، فبدت الخشبة امتداداً لما يعرض على الشاشة، ففي الكثير من المشاهد التي أراد فيها المخرج أن يجسد صورة الفارس على خيله في الصحراء لجأ إلى الشاشة، وكذلك الحال في توصيفه للمدينة التي كان يحلم بها الفارس، سواء بصورتها السابقة أو المتحولة، فضلاً عن الكثير من المشاهد التي استطاع فيها المخرج أن يجعل السينما شريكاً مع الفعل المسرحي ويوحد الفنون البصرية بمجملها في بناء ملحمة الفارس. ليس ذلك وحسب، فالاستناد إلى المؤثر الصوتي كان ركيزة أساسية في تحقيق الجمالية البصرية للعرض، فلا يمكن الحديث عن توظيف الشاشة السينمائية في العمل، من دون الحديث عن جودة التأثير الصوتي المرافق للعمل، إذ نقلت الحركة البصرية بتجليات صوتية متكاملة، أسهمت في تحقيق التفاعل الواقعي مع العمل. أما على صعيد السينوغرافيا فنجح المخرج في استغلال فضاء الخشبة المتسع بأكثر من وسيلة، الأولى منها السينوغرافيا المتحركة والمتبدلة وفق المشاهد المسرحية، والثانية عبر تكوين الرقصات الممتدة، ومشاهد المعارك والقتال، فلم تكن السينوغرافيا فائضة عن حاجة العمل، أو حاضرة بشكلها الجامد غير المستغل والموظف، وإنما كانت شريكة في مجرى الأحداث، وفي رسم الصورة المكانية والزمانية لمجرى العرض. ولم يعمل المخرج على السينوغرافيا بوصفها صورة وتكويناً يؤثث العرض المسرحي، وإنما استخدمها بوصفها البديل عن الزمن الذي يحتاج إليه العرض، لتكوين صورة الحكاية لدى المتلقي، فكان استحضار البيوت المنشأة، والمباني التراثية، إضافة إلى بعض العربات التي أثثت مشاهد الأسواق التراثية، ركيزة أساسية في تحديد الفترة الزمنية التي يجري فيها العرض، فالمسرحية تجسد أشعار وحياة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، في مرحلة تقترب في صورتها مع ما يمثله تراثنا العربي الأصيل، في إشارة بذلك إلى الجذور التاريخية العربية التي ينتمي إليها سموه في خصاله وسماته الفروسية. وقامت السينوغرافيا بدورها المتكامل في تجسيد مكان الحدث في العرض المسرحي، إذ يستند إليها المخرج كثيراً في تحريك الحدث، ونقل مساراته من مساحة إلى أخرى، ليجعل من العرض مشواراً بصرياً مضى به المتلقون بين المدينة التراثية، والأسواق الشعبية القديمة، والقصور الباذخة، فضلاً عن الصحراء، وساحات المعارك، ففي كل واحدة من هذه الأماكن كانت السينوغرافيا هي الركيزة الأولى في رسم معالم الحدث. أما على صعيد الصورة البصرية المتحركة، والمتمثلة بدور الممثلين وأدائهم على الخشبة، فقد أثبت العرض قدرة الممثل على ملء الخشبة المسرحية مهما كان اتساعها، إذ مثلما كان المسرح في بعض المشاهد يعج بالممثلين، كان في الكثير منها، ينتصب الفارس وحيداً على الخشبة ويملأ فضاءها بحضوره، وصوته، وقصائده، وحكمته التي شكلت الجذر الأصيل للنص المسرحي بمجمله. وأنتج الرحبانيان من الخشبة مساحة مشرعة أمام العروض الراقصة، فحولوا الحرب إلى عرض أدائي راقص، وحولوا الفرح إلى رقص، والحوار إلى رقص، فكان الحديث في الكثير من مشاهد المسرحية يجري ويتحرك بعروض راقصة ضخمة قدمها عشرات الممثلين والراقصين، حيث نجحوا في المزاوجة بين السكون والهدوء المصاحب لمشاهد الإلقاء الشعري، والتأمل الفكري، وبين الحركة والغنائية في المشاهد التي تستدعي ذلك. ليس ذلك وحسب، فقد بدت العناية واضحة في التأثير البصري لحركة الممثلين على الخشبة، فكانت العناية بألوان الأزياء واضحة، ومتجانسة مع المشروع البصري الباذخ الذي قدمه الرحابنة، فلا يكاد مشاهد العرض يعثر على تكوين لوني غير منسجم مع المشاهد، أو غير متوافق مع الفضاء الذي يتحرك فيه. لذلك كانت المسرحية ملحمية وغنائية بصرية بمستويات متعددة، لتكون قادرة على حمل السيرة والنص المتين الذي يستلهم نصوص صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم.
مشاركة :