سيطرت روح قلقة تستشعر خطر الإرهاب على مستقبل وسلامة الأوطان التي تتعرض له في منطقة العربية والعالم، على فعاليات مؤتمر «صناعة التطرف: قراءة في تدابير المواجهة الفكرية»، الذي انعقد في مكتبة الإسكندرية في الفترة من 3 إلى 5 يناير (كانون الثاني) الحالي، بمشاركة نحو 200 باحث من دول العالم، ومشاركات من 18 دولة عربية تضم خبراء في مجالات التطرف والإرهاب وعلم الاجتماع والعلوم السياسية والإسلامية. افتتح المؤتمر كل من الدكتور إسماعيل سراج الدين؛ مدير مكتبة الإسكندرية، والدكتور أسامة نبيل؛ رئيس المرصد الإسلامي ممثلاً عن شيخ الأزهر الشريف، والدكتور أحمد العبادي؛ الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء بالمغرب، والدكتورة أم العز الفارسي؛ الأكاديمية والسياسية الليبية، ونبيل يعقوب الحمر؛ مستشار ملك مملكة البحرين لشؤون الإعلام. ولفت الدكتور سراج الدين، إلى أن المؤتمر أوصى في دورته السابقة بعقد هذا المؤتمر بصورة دورية ليجمع المثقفين العرب ويناقش ويبحث ويتابع ظاهرة التطرف التي تجتاح العالم العربي، وقال إن المكتبة استجابت لهذه التوصية وأوفت بوعدها، وها هو مؤتمرها الثاني يعقد لتناول هذه القضية. مشيرا إلى أن المكتبة نظمت خلال العام المنصرم الكثير من الأنشطة والفعاليات التي تسعى إلى توسيع الاهتمام بهذه الظاهرة المدمرة، ليس لمنطقتنا فقط بل والعالم بأسره. وانتقد سراج الدين تراجع منسوب الحريات العامة وتفشي الشمولية وانخفاض جودة التعليم والجهل والفقر والتهميش والتدخل الخارجي في شؤون الأقطار العربية؛ مشيرا إلى أنه إذا كان للتطرف في المنطقة العربية منابع من سوء الفهم، ومغالاة وجهل بالدين الحنيف وأصول الفقه الإسلامي، فإن هذه الأسباب السالفة تضاف إليها. وأكد سراج الدين أننا يجب أن نلتفت لمظاهر الثورة المعرفية وأبعادها حتى نستكمل رؤيتنا للساحة الثقافية في بلادنا، ولنتمكن من متابعة هذا الكم المتنامي من المعلومات والحفاظ عليه. وأوضح الدكتور أحمد العبادي؛ الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء بالمغرب، أن التطرف أصبح صناعة لها هندستها وروافدها وأنساقها وثمارها البغيضة. ولفت إلى أن هذه الأنساق تتحرك من عدة روافد؛ النصي والعسكري والاقتصادي والسياسي والدعائي والتواصلي الذي يستهدف الوصول للناس وخاصة الشباب. وأكد أن صناعة التطرف لها أربعة أعمدة؛ وهي: حلم الوحدة، حلم الكرامة، حلم الصفاء، حلم الخلاص. ولفت إلى أن تحليل خطابات «داعش» يبين هذه الأفكار التي يعتنقونها؛ فهم يرون أن تدينهم يتميز بالصفاء عكس تدين الآخرين، وأنهم هم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة. وشدد العبادي على أن المعركة الأساسية التي ينبغي التركيز عليها في محاربة أفكار التطرف هي معركة «النص»، فيجب تنسيق الجهود لوضع النص في سياقاته الصحيحة لمنع التأويل الذي لا يضع اعتبارا للمآل، مؤكدا على أهمية تحرير المصطلحات والمفاهيم حتى لا تستخدم من قبل أي جهة لأغراض معينة، وأيضًا الاعتماد على القياس، والحكم على الأمور بثمارها ونتائجها، لافتا إلى أن القياس يكون من خلال مدخل المقاصد الكبرى؛ وهي حفظ الحياة عن طريق قياس مؤشرات مدى تحقيق الحياة الكريمة، وحفظ الدين من خلال العلماء الوسطيين، وحفظ العقل. وفي كلمتها، قالت الدكتورة أم العز الفارسي؛ الأكاديمية والسياسية الليبية، إننا يجب أن نقوم بقراءة موضوعية للواقع وما حدث في بلادنا، ففي الوقت الذي قمنا فيه بالثورات كانوا هم يؤسسون المعسكرات ويشهرون أسلحتهم في وجوهنا. وأكدت أن التيار المدني العربي لم يكن مزودًا باللازم لإدارة معركة يكون فيها بديلاً عن التطرف في أذهانهم. وأوضحت أن هؤلاء المتطرفين هم أبناء الوطن العربي ولم يأتوا من الخارج، ومن هنا يجب أن نفهم أسباب ما آلت إليه الأمور. وأكدت أنه إذا لم يكن لدينا خطاب متوازن قادر على طرح الأسئلة الواقعية الحقيقية سيكون مصيرنا أن نحترق بأيدي أبنائنا. وطرحت الفارسي عددا من التساؤلات التي يجب الإجابة عنها لتكوين منهج عقلي واقعي للعمل عليه في المرحلة المقبلة؛ وهي: هل يكفينا قبضة عسكرية وأمنية للقضاء على التطرف أم هناك جدلية تقول بأهمية التعليم والثقافة والأدب والفنون للخروج بعقل قادر أن يستوعب أفكار الآخرين؟ هل من الممكن أن يصبح للنخبة المدنية دور حقيقي في الشارع؟ هل نستطيع أن ننتج خطابا جديدا لمواجهة هذه الأزمة بدلاً من الدخول في صراعات واستخدام القوة المفرطة والعنف الشديد؟ من جانبه، أكد نبيل يعقوب الحمر؛ مستشار الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك مملكة البحرين لشؤون الإعلام، أن هذا المؤتمر يعد من أهم الفعاليات الفكرية التي تسعى لبلورة المواقف والاستراتيجيات لمواجهة التحديات في مجال التطرف والإرهاب، لافتًا إلى أن عنوان المؤتمر يعكس حجم التحديات التي تواجه منطقة تموج بالصراعات والحروب وانتشار الفوضى والإرهاب. وأكد أن الإعلام منذ ظهوره قد قام بدور كبير، ليس فقط في إبراز الاتجاهات الدينية والسياسية والاقتصادية، بل في صنع هذه الاتجاهات. وأضاف أن الإعلام هو منبر تنويري يصل صوته لملايين البشر، ولذلك يجب أن يكون محورا رئيسيا في المواجهة الفكرية للتطرف لما له من تأثير. ولفت إلى أن المؤسسة الإعلامية لها دور كبير في رسم ملامح المجتمعات، وقدرة هائلة للوصول بشكل أسرع وأكثر جاذبية، وهناك من استغل هذا التأثير بشكل إيجابي وهناك من استغله بشكل سلبي للتأثير على اتجاهات الأجيال الجديدة وتخريب المجتمع. وقال إن حركات التطرف، خاصة الديني، نبتت في مجتمعاتنا كالفطر في محاولات لفرض قواعد غريبة عن الأديان، فنحن نتواجه مع حالة فكرية احتكارية للحقيقة تستخدم الإرهاب أداة لها. وشدد على أهمية العمل على تجفيف مصادر الإرهاب ماليًا بنفس المثابرة على تجفيف مصادره الثقافية والتربوية والفكرية. وعلى نحو خاص خيمت مخاطر تنظيم داعش وما يقوم به من أعمال إجرامية، بخاصة في سوريا، والعراق، وليبيا، وغيرها من البلدان على معظم جلسات المؤتمر، فمن جهته اعتبر السياسي المصري الدكتور مصطفى الفقي، الذي أدار الجلسة الأولي للمؤتمر أن عام 2015 يعتبر عام «داعش»، هذا التنظيم الإرهابي الذي يعيث في الأرض فسادًا وخرابًا، وأن الدين الإسلامي براء من هذه الأفعال الإجرامية، التي تتخذ من الدين غطاءً لها، وأن هذا التنظيم ما هو إلا عبارة عن غطاء ديني للمأزومين من الشباب في العالم العربي والإسلامي. وتناول المفكر المصري الدكتور عمرو الشوبكي، موضوع «تحولات العنف والإرهاب - حدود المواجهة الفكرية الأولية»، من خلال ثلاث مراحل رئيسية: المرحلة الأولى وهي مرحلة التنظيمات الجهادية الكبرى، وهي المرحلة التي عرفتها مصر منذ السبعينات وطوال عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، وكذلك كل الدول العربية، التي قامت على فكرة مشروع ديني عقائدي يُبرر كل أعمال العنف التي ارتكبت، وقامت بتكفير الجميع، وكان هدفها الأول هو إسقاط نظم الحكم القائمة في تلك الفترة. وأن نتيجة المواجهات بين هذه التنظيمات والنظم هو الفشل في تحقيق أهدافها. أما المرحلة الثانية: فهي مرحلة الخلايا الصغرى، التي قامت بالكثير من التفجيرات في مصر «الأزهر - طابا - عبد المنعم رياض»، وكانت تتكون من 5 إلى أفراد هدفهم الانتقام من الدولة. وكان يتم تجنيدهم عن طريق شبكات التواصل الاجتماعي، وينتهي دورهم بتنفيذ العملية. أما المرحلة الثالثة فبدأت بعودة عصر التنظيمات التكفيرية الكبرى، مثل «القاعدة»، و«داعش»، التي تقوم فلسفتها على أساس أنها تنظيمات وظهرت في دول تعاني من ضعف في شرعية النظام الحاكم «العراق، سوريا». لافتا إلى أن من سمات هذه التنظيمات أنها عابرة للحدود والجنسيات، ظهرت في ظل أوضاع سياسية، واقتصادية، واجتماعية مضطربة، واستغلت هذه الأوضاع من أجل اكتساب قوتها. وتساءل الشوبكي: هل نحن أمام تطرف ديني أم تطرف يرتدي عباءة الدين؟، مؤكدا أننا أمام تطرف سياسي اجتماعي تمت صبغته بصبغة دينية من أجل الحصول على الدعم. وخلص الشوبكي إلى أننا أمام ممارسة للإرهاب دافعها الأساسي هو الإحباط السياسي والشعور بالتهميش والظلم، وهناك دائمًا تبرير ديني من أجل تبرير الجرائم التي يتم ارتكابها. وقال إن علاج الإرهاب من جانب الولايات المتحدة الأميركية هو الذي صنع الإرهاب، ويكمن الحل الأساسي لمواجهة هذه الجماعات في الحل الفكري إلى جانب الحل الأمني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي. وتحدث الدكتور طاهر سعود، وهو أستاذ علم الاجتماع من الجزائر، عن ما سماها «تدابير المصالحة الوطنية في الجزائر: قراءة في مشروع الميثاق من أجل السلم والمصالحة الوطنية»، وشرح من خلالها مراحل قيام المصالحة الوطنية في بلاده، التي قامت على محور أمني، ومحور قانوني، ومحور ثقافي. وأشار طاهر إلى أن المصالحة جاءت كحل لما عرف بالأزمة الجزائية، التي بدأت كأزمة انتخابية تحولت إلى أزمة سياسية ثم إلى صراع وأزمة أمنية. وأنه من أجل حل الأزمة تم اقتراح «قانون الرحمة»، ولكنه تعامل مع أعراض المرض وليس المرض نفسه، مضيفا أن «قانون الرحمة» تطور إلى «قانون الوئام المدني»، الذي تطور إلى المصالحة الوطنية عبر ميثاق تم عرضه في على الشعب الجزائري من أجل الاستفتاء عليه، وتم في النهاية الوصول إلى الميثاق من أجل السلم والمصالحة الوطنية التي أنهت فترة من أكثر الفترات دموية في التاريخ الجزائري. وتحدث الدكتور محمود حداد، أستاذ التاريخ العربي والإسلامي الحديث والمعاصر من لبنان، معترفا بأنه ليس لديه حل لهذه المشكلة، ولكنه كمؤرخ يستطيع أن يقوم بتوصيف الحالة، التي تتسم بأن المتغير فيها أكبر بكثير من الثابت سواءً على الصعيد العربي أو العالمي. وأكد أن التطرف ليس فقط في الحركات الإسلامية، ولكن هناك تطرف في الكثير من التيارات الأخرى كالشيوعية وغيرها. كما أن الثابت في التطرف هو الثنائية حيث إن لكل تطرف تطرفا مضادا له، وإن التطرف في القمع ينتج عنه تطرف في العداء ضد الدولة. وشدد الحداد في ختام حديثه قائلاً إن الغرب ليس بالضرورة ضد الحركات المتطرفة ولكنه يدعمها في بعض الأحيان من أجل تحقيق مصالحه. وناقش المؤتمر في جلساته البحثية نقد خطابات التطرف، ودور الإعلام في مواجهته، كما تطرقت البحوث لمخاطر التطرف على الأمن القومي، والتعليم والتراث الحضاري للدول، وأيضا الإرهاب الداخلي في أوروبا. ودعا المؤتمر في ختام أعماله إلى وضع إستراتيجية عربية متكاملة الأرجاء تشمل تعاونا بين عدد من المراكز والمؤسسات الثقافية لمواجهة ظاهرة التطرف والحد منها.
مشاركة :