محسن المحمدي يفتح ورشة 'الحداثة ومركزية الرؤية العِلمية'

  • 10/3/2022
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

صدر، قبل بضعة أيام فقط، للكاتب الدكتور المغربي محسن المحمدي، عن دار أدب للنشر والتوزيع السعودية، الطبعة الأولى، كتابا من الحجم المتوسط تحت عنوان "الحداثة ومركزية الرؤية العِلمية"،وهو ورشة جديدة لإعادة قراءة الحداثة من زاوية معرفية مغايرة لما هو معروف، فأعطاها تعريفا علميا بحيث امتحت الحداثة من أصلها وجذورها الحقيقية، فيقول: "نفترض ابتداء،وهذا ما سنعمل على بيانه والتدليل عليه في هذا الكتاب، أن الجذر العميق للحداثة، ومحركها الرئيس، ونواتها الصلبة تتمثل في العلم الحديث،كما تشكل في القرنين السادس عشر والسابع عشر ميلادي،فهو من وجهة نظرنا،أساس الحداثة المتين، ومنظار رؤيتها الدقيق للعالم، ومهمازها المحرك لكل ثوراتها وانقلاباتها إلى حدود عصرنا الراهن، وهو الذي لازال يغذيها ويعطيها شروط البقاء والاستمرار والتحكم". وبما أن العلم مازال مستمرا في إنجازاته، وأسلوبه ما يزال يسري في مناحي الحياة وقطاعاتهاكلها، ويحقق مكاسب ونجاحات، يضيف الكاتب قائلا:"فالحداثة ستظل قائمة ومهيمنة لا تهتز؛ وعليه، فالمعركة مع الحداثة، سواء في بُعدها الإيجابي أو السلبي، لن يثمر في عالمنا العربي الإسلامي، دونما الخوض في دلالة العلم الحديث، والوقوف عند الزلزال والانقلاب العميق الذي أحدثه في رؤية العالم، وفي مناهج التفكير والمعرفة الحديثة والمعاصرة". ليصبح الإشكال الحقيقي الواجب التطرق إليه–حسب الكاتب- هو: هل يمكن إيقاف العلم وطغيانه؟ وكيف يمكن لجم هيمنة رؤيته على تصور البشر؟ إذ تطرق الدكتور محسن المحمدي إلى الإرهاصات الأولى للحداثة مع كوبيرنيك، وكيف حوَّل فرضية الاشتغال إلى نتائج شبه ملموسة، وهي أعمال طورها جاليليو جاليلي بعده بجدارة واستحقاق، فشرع في تقديم العِلم بطريقة منهجية قلّ نظيرها ذاك الزمان، في تحد صارخ للكنيسة ولقداسة الأفكارالأرسطية، بينما دفع ثمن شجاعته حبسا نافذا وإقامة جبرية حتى الوفاة، يقول الكاتب في هذا الصدد: "إن المبادئ الحقيقية للحداثة، في نظرنا، والأسس البنائية لمعمارها، توجد في الثورة العلمية للقرن السابع عشر كما قلنا وسنقول، وخاصة الثورة الفلكية الكوبيرنيكية والفيزياء الغاليلية، وهو ما سنكرس له جهدنا في هذا الكتاب، وسنعمل على إبرازه، وطبعا في حدود مستطاعنا النظري". كان جيل الفلاسفة في القرن السابع عشر الميلادي، نقطة تحول العالَم الغربي من طريقة إلى وجهة أخرى مغايرة تماما، فاستفاق العالم الأوروبي على صفعات متتالية عرّت الواقع العِلمي، وكشفت عن الوجه الإبستمولوجي الجديد له. ويضيف الكاتب المحمدي، في كون هذه المسيرة العِلمية القصيرة، التي توّجها ديكارت بالصياغة الفلسفية للعِلم، من خلال الكوجيطو والعودة إلى الذات بدل الموضوع، بمعنى العودة إلى العقل عوض الاعتماد على الأشياء الخارجية الخادعة. كانت الحداثة صادمة للإنسان الغربي نفسه، بحيث اضطر اضطرارا إلى تقبلها رغما، عنه لقوة طرحها ولمعقوليتها في الآن نفسه، وذلك لأنها على الأقل شكلت صدمتين: "الصدمة الأولى: فقدان البشرية لمركزيتها المكانية، فالأرض أصبحت مجرد حصاة صغيرة في عالَم شاسع، وهو ما عبر عنه الفيلسوف العالِم بليز باسكال في القرن السابع عشر بصرخة شهيرة حين قال: "إن الصمت الأبدي لهذه الفضاءات اللامتناهية يرعبني"،ليتمتعويض هذا الفقدان للمركز المكاني بالمركزية الفكرية، وهي ما عبر عنها الفيلسوف ديكارت،والمجايل لباسكال بعبارة الكوجيتو الشهيرة "أنا أفكر أنا موجود"؛وأماالصدمة الثانية: الدخول في أزمة إدراك حسي،إذ اختلاف مشهد الكون بعد الثورة الفَلكية، الذي أدخلالبشرية في شكوك وإحساس بالخداع، الأمر الذي دفع بها مضطرة إلى إعادة النظر في أسس المعرفة، وإعادة تشكيل المنهج". وأما الثورة الفيزيائية الغاليلية، فيكفي التذكير بدورها الكبير في جعل الطبيعة آلة صماء بعد ظهور مبدأ "القصور الذاتي" حيث أصبحت تشتغل بسببية مطلقة، الأمر الذي أفرغها من سحرها  ومهد الطريق للتحكم فيها. ينخرط الكتاب في محاولةلإعادة تعريف مفهوم الحداثة الشائك والغامض، والذي لم يحسم حده بين الباحثين إلى الآن، ويعتقد الكاتب أنه قد وجد ضالته في تقديم تعريف خاص رآه شافياوكافيا، والذي صاغه كالآتي: "الحداثة هي: الأسلوب العِلمي موجّه إلى كل قطاعات الحياة"؛ليصبح بذلك الشخص الحداثي بامتياز أو في نموذجه المثالي هو "العالِم يشتغل في مختبره"، فطريقته في النظر للأشياء (شكه الدائم، عدم قبوله بالجاهز من الأفكار، فصله الذات عن الموضوع، عزله تكوين الشيء عن خلقه، تكميمه للظواهر قصد التحكم فيها، استبعاده للنظرة الغائية...) لم تعد حكرا عليه وحده، بل طغت وتسربت إلى بنية التفكير البشري خلال القرون الأربعة الأخيرة، فأصبحت رؤية شمولية ومنوالا" باردايم" كاسحا تتودد له كل القطاعات الأخرى. لقد كان هذا التعريف السابق من جانب الكاتب المحمديللحداثة، والذي قام باشتقاق الأسس الحداثية منه، مسعفا لهفي حل معضلات كثيرة، ومساعدا في فهم الكثير مما طرأ على البشرية من انقلابات، وتغيرات جذرية خلال القرون الخمسة المنصرمة، وإن كان من جهة أخرى قد وضع العالَم في مآزق صعبة خاصة بالنسبة للمناوئين والنافرين من الحداثة، ومنهم أطروحة الفيلسوف طه عبد الرحمن [الذي سيخصص له الكاتب إصدارا خاصا فيما بعد]، إذ سيصبح أي رفض لهذا التعريف هو رفض مباشرللرؤية العلمية ذاتها. يدخل هذا الكتاب في إطار التبيئة البيداغوجية والتربوية لمفهوم الحداثة، وذلك عن طريق محاولة إعادة تعريفها انطلاقا من تماهيها بالأسلوب العِلمي ذو الرؤية المحايثة، من جهة، ومن جهة أخرى دفاع عن كونية الحداثة بحجة وجيهة، هي كونية الأسلوب العِلمي العابر للأوطان وللشعوب مهما اختلفت مللها ونحلها على حد قول الكاتب. وأخيرا يبقى الكتاب أنموذجا له بصمة خاصة، في ملامسة أقطاب الحداثة وشرح التحول العميق في التفكير من مرحلة القرسطوية إلى بدايات التنوير العقلي الإنساني.

مشاركة :