في أكتوبر 2011م أعلنت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك في مجلة فورين بوليسي «قرن المحيط الهادئ بالنسبة إلى أمريكا»، مدعيةً أنه بعد عقدين من الاشتباك العسكري المستمر في الشرق الأوسط وصلت واشنطن إلى «نقطة محورية» تسعى من خلالها إلى تعزيز «زيادة الاستثمار بشكل كبير دبلوماسيًّا واقتصاديًّا واستراتيجيًّا وغير ذلك في منطقة آسيا والمحيط الهادئ». وبعد أحد عشر عامًا، وعلى الرغم من تكثيف المنافسة الاستراتيجية الأمريكية في جميع أنحاء العالم بين الولايات المتحدة وجمهورية الصين لتعكس حربًا باردة جديدة بين الشرق والغرب، لا تزال أمريكا تقدم حضورًا عسكريًّا لا مثيل له في الشرق الأوسط كقوة خارجية، إلى جانب النفوذ الاقتصادي والسياسي القوي. وفي العقد الذي أعقب بيان كلينتون، استمرت الدعوات من الخبراء والسياسيين الغربيين للولايات المتحدة لتقليل وجودها في الشرق الأوسط. ومن بين المحللين الذين روجوا لهذا التحول جاستن لوجان، زميل أول في معهد كاتو، في عام 2020، أن «أفضل شيء يمكن أن تفعله الولايات المتحدة» للشرق الأوسط هو «المغادرة»، في حين اعتبر آرون ديفيد ميلر وريتشارد سوكولسكي، من مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، أن المنطقة «ببساطة ليست بنفس الأهمية التي كانت عليها من قبل للمصالح الخارجية الأمريكية». في مواجهة هذا الرأي، أكد العديد من المراقبين الأهمية الاستراتيجية المستمرة للمنطقة بالنسبة إلى واشنطن، ففي عام 2021 قال ويليام وشسلر، مدير برنامج الشرق الأوسط بالمجلس الأطلسي، إنه بدلاً من الانسحاب من الشرق الأوسط يجب على الولايات المتحدة «أن تسعى للعودة إلى دور الولايات المتحدة التقليدي المتمثل في حماية واستعادة» الوضع الراهن كقوة تقليدية بالمنطقة «بالتوازي» مع الضغط من أجل تحسينات تدريجية في الأمن الإقليمي والازدهار والرفاهية العامة. ومع وضع مكانة الشرق الأوسط كمركز عالمي لتصدير النفط، كتب جون ألترمان، مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) بواشنطن، كيف أن «البعض في الولايات المتحدة قد ابتهج بتراجع دور النفط والغاز أمام مصادر بديلة، ما سيعني قريبًا نهاية المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط»، لكنه حذر من أن هذه العملية «في الواقع، ليست بهذه البساطة». وبينما يرى لوجان في عام 2020 أن «أهمية نفط الشرق الأوسط لا تزال كما هي تقريبًا» كما كانت قبل ربع قرن، ولم يؤدِّ الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة إلى التأثير على أسعار النفط، أصر ألترمان على أن قدرة دول المنطقة على إنتاج النفط تبقيها دائما على صلة استراتيجية بالمصالح الأمريكية، وذلك بسبب «عدم رغبة المستثمرين الأمريكيين في الاستثمار في استكشاف الطاقة والاستثمار في بنيتها التحتية»؛ وبسبب «العداء لقطاع النفط والغاز لأسباب بيئية»، وهو ما يعني أن مصافي النفط في الولايات المتحدة «لا يمكنها بدء تلبية الطلب»، مضيفًا: «لقد مرت عقود منذ أن تم بناء إحداها، ولن يقوم أحد ببناء غيرها مرة أخرى». لقد أظهرت جائحة الفيروس التاجي والحرب الروسية في أوكرانيا في فبراير 2022 بشكل أكبر التأثير المستمر لنفط الشرق الأوسط على كل من الاقتصاد العالمي والولايات المتحدة، وفي حين كتب ألترمان «الحكمة التقليدية» أن «أسعار النفط والغاز ستنحدر بهدوء إلى أسفل مع تراجع الطلب»، فقد رأى أنه في ضوء الأحداث «من غير المرجح أن تمضي على هذا النحو»، وبدلاً من ذلك توقع «فترة ينخفض فيها العرض بسرعة أكبر من الطلب»؛ ومن ثم «ضغط تصاعدي على الأسعار». وإلى جانب الإقرار بالأهمية الاستراتيجية المستمرة للنفط، تم أيضًا تأكيد حاجة الولايات المتحدة إلى الرد على المنافسة من الجهات الفاعلة العالمية الأخرى في المنطقة. في الواقع، يرى جيمس فيليبس وجون فينابل من مؤسسة هيرتدج أن ضمان الاستقرار في الشرق الأوسط «يتوقف على احتواء التهديدات الصادرة من إيران»، وكذلك «تقليل التأثيرات الخارجية العدائية»، مضيفين أن منطقة غير مستقرة ستكون «متاحة أمام النفوذ الصيني والروسي» لتحدي دور الولايات المتحدة. كما أدت الانتكاسات الروسية في حرب أوكرانيا إلى تقليص الخطر الاستراتيجي لدور الولايات المتحدة في المنطقة، حيث أشار البعض إلى أن «الأداء الضعيف لموسكو في الحرب» قد أدى إلى «اهتزاز» صورة بوتين كشخص أكثر نجاحًا من الولايات المتحدة أو الحكومات الغربية الأخرى في تنفيذه لعمليات عسكرية، ومن ثم «مهما كانت الشكوك التي قد تكون لدى حكومات الشرق الأوسط حول الالتزام الأمريكي بالدفاع عنها» فإن المشاكل العسكرية الروسية في أوكرانيا «لم تبعث الثقة» في قدرة موسكو على أن تكون شريكًا أمنيًّا بديلاً. وتمثل جمهورية الصين تحديًا أكبر بكثير لدور الولايات المتحدة الإقليمي، ومع ذلك، فقد كتب ألترمان كيف أنه في الوقت الذي تحركت فيه الولايات المتحدة لتحويل وجهها شطر آسيا، كانت الصين «تشق طريقها بصبر في الشرق الأوسط» من خلال إعلان نفسها باعتبارها «الترياق المضاد للهيمنة الأمريكية» في المنطقة. ومن الواضح أن هناك جوانب جذابة من العلاقات الوثيقة مع بكين لدول الشرق الأوسط، مع العلاقات المبنية في المقام الأول على العلاقات الاقتصادية وليس السياسية أو الأمنية، حيث بلغ إجمالي التجارة بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي في عام 2021 أكثر من 247 مليار دولار، وبلغت قيمة التجارة الصينية مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة 87 مليار دولار و75 مليار دولار على التوالي عام 2021. وبالمقارنة، بلغ إجمالي المعاملات التجارية لدول الخليج مع الولايات المتحدة 62.6 مليار دولار فقط. علاوة على ذلك، نظرًا إلى أن بكين «لا تقدم محاضرات حول الحوكمة ولا تتطرق إلى شيء سوى الأمور التجارية البحتة»، فقد سجل ألترمان أن دور الصين الإقليمي «ملموس» للزعماء الإقليميين ويتعارض بشكل صارخ مع التصورات المستمرة لدول المنطقة حول «عدم الاهتمام» من قِبَل واشنطن. وتنظر بكين إلى حاجتها إلى مصدر آمن للطاقة تتيحه المنطقة على أنها «نقطة ضعف دائمة»، حيث يمكن لواشنطن «قطع هذه الإمدادات النفطية القادمة من الشرق الأوسط سريعًا» إذا كان من المقرر أن يندلع الصراع بين هاتين القوتين العظميين. وتفتقر الصين أيضًا إلى نفس الحجم من احتياطيات النفط الاستراتيجية التي تمتلكها الولايات المتحدة، حيث أدى اعتماد الأولى على إنتاج الفحم إلى ارتفاع مستويات التلوث في البلدات والمدن الخاصة بها إلى مستويات غير مسبوقة في العقود الأخيرة. وفي حين أن الولايات المتحدة لطالما سعت إلى فك ارتباطها بشكل تدريجي عن المنطقة، أكد ألترمان أن الصين احتفظت «بسياسة مدروسة وواقعية تجاه الشرق الأوسط» مبنية على الاعتراف بأن علاقاتها بالمنطقة «يجب أن تزداد قوة قبل أن تصبح أضعف». ويرى الزميل البارز المختص بالشؤون الصينية في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات كريج سينجلتون أنه على سبيل المثال يمكن أن تتجلى تلك القوة من خلال الأحداث المستقبلية؛ حيث إن الاتفاق النووي الإيراني حال إبرامه سيمكن الصين من «تعميق نفوذها في جميع أنحاء الخليج» من خلال زيادة الاستثمارات والتجارة التبادلية مع النظام الإيراني، وربما تسعى بكين للوصول إلى الهدف المعلن المتمثل في الوصول إلى مضاعفة حجم التجارة الثنائية بحلول عام 2026 جراء انتعاش قطاعات النفط والصلب والذهب والألمنيوم. وفي حين أن بكين «تضع نفسها بشكل جيد ضمن دائرة التركيز العالمي المتزايد على الشرق الأوسط»، أشار ألترمان إلى أن الولايات المتحدة «تميل إلى اتجاه آخر»، وذلك في محاولة منها للتخلي عن علاقاتها مع الشرق الأوسط وتقليل روابطها الاقتصادية والسياسية مع المنطقة. وفيما يتعلق بما يجب أن تفعله الولايات المتحدة كجزء من التركيز على حماية استراتيجيتها على المدى المتوسط في الشرق الأوسط، قال ديفيد شينكر، الزميل الأول في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى ومساعد وزير الخارجية السابق لشؤون الشرق الأدنى، ينبغي أن يكون «التعاون الأمني داخل المنطقة» أولوية للإدارات الأمريكية لحماية مصالحها الاستراتيجية، ولا شك أن تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل وعدد من الدول العربية منذ عام 2020 جعل «هذا النوع من التعاون الملموس ممكنًا». ولكن فيما يتعلق بتشكيل شبكة دفاع جوي متكاملة للحماية من الضربات الجوية والصاروخية الإيرانية، كتب كل من «فيليبس» و«فينابل» أن عقبة «عدم الثقة» بين تلك الدول المعنية يمكن «تخفيفها إذا أكدت الولايات المتحدة قيادتها كأمة قادرة على حل القضايا العالقة». بالإضافة إلى ذلك، من المهم تسليط الضوء على الحاجة إلى تحقيق توازن بين نشر القوات الأمريكية بين الشرق الأوسط وكذلك بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ وبقية العالم أجمع. وفي هذا الصدد تشير أنجيلا ستينت، زميلة أولى غير مقيمة في معهد بروكينغز، إلى أن حرب أوكرانيا «أكدت أهمية الدور القيادي الذي لا غنى عنه لواشنطن كضامن لأمن دول أوروبا»، حيث أفاد كريج سينجلتون بأنه «بدون قدرات أمريكية مستدامة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ يمكن أن تكون الصين أشد جرأة بدرجة كافية على إجراء مناورات عسكرية أكثر خطورة من تلك التي أجرتها مؤخرًا في المياه الإقليمية لتايوان وما حولها». وفي ضوء هذا النسيج المعقد من الأولويات الأمنية الأمريكية الخارجية، أكد ريتشارد هاس أن «التحدي الأكثر إثارة للقلق» للدور الأمريكي عالميًّا «يكمن داخل الولايات المتحدة نفسها»، وخاصة أن نقاط القوة التاريخية التي كانت تتمتع بها الولايات المتحدة، بما في ذلك «سيادة القانون، والانتقال المنظم للسلطة، والقدرة على جذب المهاجرين الموهوبين والاحتفاظ بهم على نطاق واسع»، و«الحراك الاجتماعي والاقتصادي» الآن، ظهرت «أقل مما كانت عليه في السابق». في النهاية، يبدو أن الحرب الأوكرانية، وتصاعد التوترات مع الصين، وخاصة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، والمنافسة الشرسة مع بكين، وحالة الاستقرار السياسي الداخلية غير المؤكدة، تمثل جميعها تحديات استراتيجية رئيسية أمام الولايات المتحدة، لذا فهي في حاجة ماسة إلى ضمان الحفاظ على مصالحها في الشرق الأوسط، ووفقًا لألترمان، ربما يكمن الحل في ضمان أن يظل إنتاج المنطقة من النفط وثيق الصلة بالمصالح الأمريكية، والاعتراف بأن الدور الإقليمي المتزايد للصين يهدد الموقف التقليدي للولايات المتحدة كقائد اقتصادي وسياسي وأمني في الشرق الأوسط، فضلًا عن التحلي بالصبر من قِبَل واشنطن للحفاظ على المصالح والشراكات الغربية على أفضل وجه في تلك المنطقة، وخاصة في عصر تداهمه حالة من عدم اليقين والعديد من التحديات.
مشاركة :