لست بصدد الحديث عن شاعر جميل أثبت قدرته الشعرية والأدبية، وتخطى تأثيره الإبداعي العالم العربي إلى العالمية، حيث ترجمت قصائده إلى اشهر اللغات كالفرنسية والانجليزية والايطالية ك «الفرح المراق – بستان الهاوية – سوسيولوجيا الأمهات العازبات» قال ل«الرياض» تعثرت في كتب كثيرة، مؤمن بأن القراءة هي أساس التعلم والتحصيل المعرفي وصقل الموهبة والرقي بالذائقة. ضيفنا الشاعر التونسي محمد بوحوش حاصل على جائزة الإبداع ناجي نعمان في لبنان عام 2007 م كما حصل على وسام الاستحقاق الثقافي بتونس عام 2008 م فإلى الحوار: الشاعر التونسي محمد بوحوش: تعثرت بكتب شتى * ما الكتاب الذي أحدث تأثيرا فيك بعد قراءته؟ - الحياة بمعنى ما كتاب يفتح ثمّ يطوى، في ثناياها تعثّرت بكتب شتّى: من المواقف والمخاطبات لمحمد بن عبدالجبار النفريّ إلى ملحمة جلجامش، وأزهار الشرّ لشارل بودلير، أب الشّعر كما ينعته آرتور رامبو وكتاب "نادجا" لرائد السّرياليّة أندري بروتون، فرواية زوربا اليوناني لنيكوس كازنتزاكي، ورواية مئة عام من العزلة لجبرييل قارسيا ماركيز. من كلّ هذه الجواهر خلد بذاكرتي كتاب "نادجا لأندري بروتون. وهو متن يجمع مبادئ وروح المدرسة السريالية. واذا كان لا بدّ من التّعريف به فإنّي ألخّصه في كونه كتابا شاملا جامعا بصيغة نصّ كونيّ مفتوح وفاتحة لمتون أخرى سرديّة وشعريّة * مانوع التأثير وهل أنت به وما مدى استمراره؟ - رواية نادجا لأندري بروتون كما أراها هي نصّ جمع بين السّرد والشّعر. فيها من السّير ذاتي الكثير وفيها من الرّؤيويّ والفلسفيّ ما هو أكثر. وظّف فيها الكاتب الفوتوغرافيا والرّسوم والبورتري، والرّسائل وأسماء الأماكن والأعلام والهوامش، علاوة على تقنيات أخرى منها الأحلام والهذيان والاعترافات والشّعر والخبر والإعلانات والحكاية والتّداعي الحرّ في إطار ما يسمّيه السّورياليون بالكتابة الآلية أو الأتوماتيكيّة التي بمثابة توثيق أو فيلم وثائقيّ بمسحة الخياليّ والفلسفيّ والعجائبيّ والغرائبيّ والرّمزيّ. إنّها من منظور آخر رواية في العشق الذي يحدث كوقع الصّاعقة. لقاء عفويّ وبالصّدفة بين الكاتب أندري بروتون وشابّة بوهيميّة اسمها سوزان ميزار. وهي رواية المغامرة والحرّية والفكر الرّافض لقيم ذلك العصر والباني لقيم تنتصر لإنسانية الإنسان ولقضايا الوجود الكبرى وقضايا المجتمع المثاليّ. رواية الجمال والعشق والحياة بما يعتريها من صخب وانتصارات وخيبات. أذكر هذه الرّواية لكونها أسّست للجديد والمستحدث وأفلحت في المزج بين أجناس شتّى. فيها مراوحة بين الوعي واللاّوعي وبين الألم واللذّة والوجود والعدم. فيض الواقع وفيض الخيال الباذخ وشعرنة السّرد وتسريد الشّعر. رواية أنجزت على أساس مرجعيّات التيّار السّرياليّ بما حمله من تمرّد وثورة على السّائد، وما به فجّر اللغة ولوى أعناقها بصور واستعارات امتزج فيها المعقول باللاّمعقول. لقد رسّخت فيّ رواية " نادجا" رؤية أخرى منفتحة على تجاور وتحاور كلّ الفنون والنّصوص مهما كان انتماؤها وما يزال هذا التّأثير جاريا إلى حدّ يجعلني أقول: إنّ الحياة نصّ مفتوح كما رواية نادجا، وقد استمرّ تأثير رواية "نادجا" في تجربتي ومرجعياتي الفكريّة ورؤيتي للأدب. فلقد جعلتني أقطع مع التّصنيفات والتجنيس وأقطع بالخصوص مع المفهوم المتداول للشّعر. فالكون قصيدة بحركته وتواتر إيقاعه وانتظامه وألوانه وطاقته وإيحاءاته وإحالاته وأصدائه. جعلتني تلك الرّؤية في فلك النصّ الكونيّ الذي تختلف تفاصيل روايته من إنسان إلى آخر ومن شعب إلى شعب ومن ثقافة إلى أخرى. فالشّمس هي الشّمس كعنصر مستقلّ بذاته وكلّ يقرأها وفق مرجعياته وثقافاته. والشّعر من هذا المثال. جعلتني اكتب النص الكوني المفتوح على المطلق والتّجريب. نصّ اللاّشكل في شكل، الباحث عن هويّته والمنفتح على كلّ الأجناس في توليفة نثر- شعريّة. نصّ ينأى عن التّهويمات والتّعمية وعن البلاغة السّافرة وطنين الإيقاع. إنّه الوجه الآخر الحميميّ المتوهّج في تجربته وصدقه وتواصله مع الإنسان وأسئلة الحياة والوجود والواقع اليوميّ المعيش بتفاصيله وجزئياته، ذاك النصّ الموشّى بالانزياحات الدّلاليّة واللّغويّة والمزدان بالإيحاء والإيماء والرّؤية الأعمق. * هل ترى أن القراءة محرك أو دافع للتغيير في وقتنا الحاضر؟ - رغم تعدّد الوسائط في العصر الحديث فإنّ القراءة بمفهومها الواسع تظلّ الآليّة الأساس للتعلّم والتّحصيل المعرفي وصقل الموهبة والرقيّ بالذّائقة جماليّا وسلوكيّا وحسيّا وعقليّا ووجدانيّا.علاوة على دورها في الإبداع الفنّي والأدبيّ والعلميّ والتقني. أعتقد بأنّ لا إبداع ولا كتابة من دون قراءة. فكلاهما يستند إلى مرجعيّات وتراث وانجازات سابقة وليس ثمّة من إضافة أو إسهامات متأتّية من الفراغ. لذلك نجد القراءة متأصّلة ومشاعة لدى الأمم الرّاقية التي تسهم في إثراء الحضارة الإنسانية فيما هي منحسرة لدى الأمم المتخلّفة. والقراءة بهذا المعنى فعل فهم وتفسير وتغيير وبناء لعلاقة الإنسان بنفسه وعلاقته بالمجتمع وبالطبيعة على نحو مدنيّ يتيح التّعايش السّلميّ والحضاري بين المختلف والمتعدّد والمتنوّع.
مشاركة :