هل بات إحياء الذاكرة التاريخية للأمة أمراً واجب الوجود، لا سيما في ظل هذه الهجمة الشرسة على ذاكرتها وتصورها عن نفسها وعن العالم؟ هذا سؤال جوهري يتوقف معه الدكتور جاسم سلطان في كتابه «نحو وعي استراتيجي بالتاريخ: الذاكرة التاريخية للأمة»، الصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر. يغوص الكتاب في عمق تلك الإشكالية ويذهب إلى أن الحرب اليوم لا تدور بين الأساطيل والطائرات وحسب، وإنما هي حرب نفسية أشد ضراوة وأخطر تأثيراً، موجهة إلى استلاب العقول والقلوب، إنها الحرب التي لا تتوقف أناء الليل وأطراف النهار. هل هي حروب ثقافية موجهة باتت تتجاوز المواجهات العسكرية التقليدية؟ هذا ما يشير إليه المؤلف، ذلك إنك إن فتحت المذياع أو أدرت مؤشر التلفاز، ويمكنك أيضاً حال دخولك شبكة الإنترنت، أن تنظر وتستمع كذلك عبر الفضاء الفسيح إلى حالة من الاحتراب الإعلامي الضخم الذي يستهدف المدارس والتعليم وعمليات التثقيف المختلفة. ما الذي تفعله هذه الأدوات المعرفية التي باتت في ضراوة الأسلحة الحربية وربما أفعل؟ حُكماً إنها تشكل من خلال ذلك كله العقل، لا في عالمنا العربي وحسب، بل على مستوى العالم أجمع، وللقوة المتفوقة اليوم النصيب الأوفر والباع الأطول في إعادة تشكيل الخريطة الذهنية للمجتمعات البشرية. هل في الأمر فخ معرفي إدراكي لا تقل خطورته عن معارك النار والدمار؟ يذهب الكاتب إلى أنه عندما تكون أداة الحرب هي الإعلام والمدارس، فإن الخصم يتخفى ويتلون ويقوم كل مرة باحتلال مساحات صغيرة من العقل البشري، حتى يجد الإنسان نفسه متلبساً لمقولات الآخر من دون تمحيص أو تفكير، ويعتمد الخصوم في ذلك على أن الغالبية العظمى من البشر لا تقرأ ولا تمحص، وإنما تتلقي كل شيء من الخارج، وهذا في واقع الأمر هو الفخ الكبير. غير أن الوعي والانتباه لهذا الفخ، يجعل منه نقطة محورية تدفعنا إلى إدراك أهمية إحياء الذاكرة التاريخية للأمة، فالهجوم على التاريخ الإسلامي وإعادة تشكيله وانتقاصه وتعظيم تاريخ القوى الغازية لبلاد الإسلام، يؤثر تأثيراً كبيراً حتى في صفوف من يظن أنهم يقعون في طليعة المحركين لعملية النهضة. وعند الدكتور حاتم سلطان ومن خلال مرئياته أن كثيرين من العاملين للنهضة لا يمتلكون خريطة واضحة للتاريخ البشري، وكثير من الاستشهادات والاستدلالات التي يلجأون إليها تبدو مبتورة وفي غير موضوعها، وعليه يأتي هذا الكتاب لمحاولة ردم هذه الفجوة. يكتب المؤلف تحديداً من أجل القارئ الذي يشق عليه في خضم مشاغل الحياة المتعددة أن يلجأ إلى أمهات الكتب والمراجع والبحوث، وهو يمثل الشريحة الكبيرة من المجتمع الإسلامي التي تعد أمل الغد المشرق. يهدف الكاتب من خلال سطور كتابه هذا إلى الوصول إلى أمور عدة، في مقدمها فهم أطوار الحراك التاريخي التي تمر بها أي حضارة حتى تقوم، وكذا رسم خريطة مبسطة لصعود الحضارة الإسلامية وهبوطها، وفي الوقت ذاته رسم مشاهدة حية لهبوط الحضارة الغربية وصعودها. سطور الكتاب أيضاً تميط اللثام عن مسألة جوهرية، تجافي وتنافي فكرة الصراع الحتمي للحضارات التي نادي بها هنتنغتون في أوائل تسعينات القرن المنصرم، إذ تشير إلى أزمنة وأمكنة تقاطع مساري الحضارتين الإسلامية والغربية. يناقش الكاتب في منهجية تاريخية وعلمية الدور الذي لعبته الحضارة الإسلامية في نقل البشرية من طور الطفولة إلى طور الرشد العلمي، ثم يتناول قضية الأدوات المعرفية التي وفرت لأوروبا عبر تراكم كمي ونوعي نهضتها المعروفة، وفي الوقت ذاته يسأل عن الأسباب التي أدت بالعالم الإسلامي إلى التخلف. هل الأسئلة أهم من الإجابات؟ فلسفياً هذا أمر صحيح ومقطوع به ذلك لأن الإجابات تقدم لنا أفقاً واحداً قد يبدو أحياناً ملزماً وضيقاً، في حين أن الأسئلة تفتح المجال للتفكير في اتجاهات عدة، وتقودنا أحياناً عبر دروب الحيرة العقلية إلى مسارات ودروب تفكير غير تقليدية. إن الفهم بالنسبة إلى صاحب الكتاب هو النقطة الحرجة في إنجاح عملية النهضة، ويقصد به وجود صورة أو إطار واضح المعالم يستند إليه الساعون إلى النهضة، وينطلقون من خلاله، إطار مرشد، تتدفق بين ضفتيه مياه النهضة في حركتها ونشاطها لتلتقي في المصب، فلا تتشتت الجهود ولا تضيع، ومن أهم خطوات بناء هذا الإطار الجامع السعي لإحياء الذاكرة التاريخية للأمة. هل التحدي الآني أو الهجمة الفكرية التي يتعرض لها العالم العربي والإسلامي في حاضرات أيامنا هي الأولى من نوعها أم الأكثر خطورة عبر مسارات التاريخ؟ يقطع صاحب الكتاب بأن الأمة الإسلامية منذ نشأتها وهي تتعرض على مر العصور والأحقاب المتتابعة لتيار متصل من التحديات والأخطار أشبه ما يكون بالتيار الكهربائي والذي يمثل الأخطار الكبرى كالحملات الصليبية والهجمة التتارية، ومحاكم التفتيش في الأندلس، ومعاهدات التجزئة والتقييم، ثم إسقاط الخلافة، وهي قمم موجاته، ويخطئ كل من يحصر الأخطار والتحديات في قمم الموج فقط، فتيار الأخطار لم ينقطع البتة، ولم تكن تنكسر موجة إلا لتعلو غيرها. وما بين الانكسار والعلو تلتقط الأمة أنفاسها قليلاً استعداداً للموجة التالية. ما الذي تفيده مثل هذه القراءة التاريخية لذاكرة الأمة من جهة وللواقع المعاصر من ناحية ثانية؟ حُكماً أنها تنقلنا من مجرد الاستجابة المتشنجة للتحديات القائمة، ومن المحاولات المستميتة والمضطربة للتغلب على قمة الموجة العاتية، إلى وضع رؤية إستراتيجية شاملة واعية راشدة في محاولة التقليل من قوة الأمواج المستقبلية، ومن ثم للوصول إلى قمة المجد الحضاري في المستقبل. ما هي أهم التحديات التي تواجه الأمة في الوقت الراهن وما هي سبل التصدي لها؟ يجمل الكتاب تلك التحديات في ثلاثية التخلف والاستعمار والفرقة، ويؤكد أنه لا يمكن التصدي لها إلا بالعمل على أربعة صعد هي: الصعيد النفسي، والفكري، والتنظيمي، والمادي. وتلفت رؤية المؤلف إلى أهمية اللحظة الراهنة في تاريخ الأمة، وعنده أنه من أوجب الواجبات الآن عكوف قادة النهضة وطلابها على تمحيص السبل والوسائل للانتقال من مرحلة الصحوة التي طال أمدها واستطابت ثمارها إلى مرحلة اليقظة والرشد والوعي. كما يخلص إلى أن الانتقال من مرحلة الخطط التشغيلية والتنفيذية إلى مرحلة الخطط الإستراتيجية كفيل بالقضاء على الأمواج، وتقليل تيار الأخطار إلى الحد المسموح به. يعطي سلطان جرعة طيبة من التفاؤل، إذ يرى أن تباشير الانطلاق إلى مرحلة اليقظة قد بدأت بالفعل على مستوى عوالم ثلاثة، عالم الأفكار، وعالم الأشياء، وعالم العلاقات. هل من رؤية تفكيكية ما لكل عالم من تلك العوالم الثلاثة؟ بداية وفي ما يتصل بمستوى عالم الأفكار، فإن الساحة النهضوية تموج الآن بكثير من الأفكار التي تتدافع في ما بينها وسيُكتب لأصلح هذه الأفكار وأقواها البقاء والصمود. وشهد القرن العشرون صعود نجم كثير من الحركات النهضوية الإصلاحية والتغييرية التي أحدثت فارقاً ضخماً ونقلة حقيقية في عالم الأفكار، كما ظهر عدد من الكتابات النوعية التي وإن كانت شحيحة، إلا أنها بادرة إيجابية ومؤشر على التطور الذي يشهده عالم الأفكار في المشروع النهضوي الإسلامي. هذا بعض حصاد مرحلة الصحوة في ما يتعلق بعوالم الأفكار. ماذا إذاً عن مستوى عالم الأشياء؟ الثابت أن بعض الدول الإسلامية استطاعت امتلاك تكنولوجيا متقدمة على الصعيدين العسكري والمدني، بما يؤهلها لإحداث بعض التوازن مع القوى العالمية الأخرى عسكرياً ومدنياً، وأقرب الأمثلة إلى الذهن باكستان النووية، وماليزيا العملاق الاقتصادي القادم... هل هذا كل شيء؟ بالقطع لا يزال أمامنا كثير لردم الفجوة التكنولوجية والاقتصادية الهائلة بين أمتنا وبين القوى المهيمنة الأخرى، ولا يزال أكبر المشاكل التي تواجه الأمة العربية والإسلامية، التبعية الاقتصادية ومشكلة السماء المفتوحة. ما الفرق بين الأمرين؟ من الواضح أن التبعية الاقتصادية تجعل الأمة تدور في فلك المستهلكين لا المنتجين. كما أن التبعية الاقتصادية تلازمها بالضرورة التبعية السياسية وما يترتب عليها من قرارات تتعلق بالصراع والتنمية والنهضة جميعاً. أما مشكلة السماء المفتوحة، فيقصد الكاتب بها عجز العالم الإسلامي عن حماية سمائه ضد القوة المادية الصلبة التي قد تستخدمها القوى الأخرى إذا ما تململ المارد الإسلامي أو حاول التحرك أو القيام من كبوته. أنها تعني الخوف من عواقب أي قرار سياسي حقيقي، بل الخوف من أن يُساء فهم أي قرار سياسي... ما الذي يتبقى إذاً؟ الحديث عن المستوى الثالث وهو عالم العلاقات، فلا يزال هذا العالم أكثر العوالم الثلاثة تخلفاً، فالعلاقات، لا تزال مضطربة بين الحكام والمحكومين، وبين الأحزاب والهيئات والسلطات، وبين الحركات النهوضية بعضها بعضاً، بل وبين الحكام أنفسهم، ولا تزال الانقلابات والاستفتاءات هي أسلوب تداول السلطة أو احتكارها، وما أشبه عالم العلاقات في يومنا هذا بعالم العلاقات الذي كان سائداً في عصر دول وملوك الطوائف في الأندلس، وكم ستكون النهايتان متشابهتين لو استمر عالم العلاقات على هذا الحال. والخلاصة هي أن استجابة الأمة الإسلامية والعربية للتحديات الآنية هي استجابة إيجابية إلى حد بعيد، ولكن لا يزال أمام الأمة البحث عن الوسيلة الذهبية التي يحسم بها الصراع وتزول معها الأدواء. والأمة ممثلة في علمائها ومفكريها وقادة وطلاب النهضة وهي في طريقها للوصول إلى تلك الوسيلة الذهبية ينبغي لها ألا تغفل طريقاً أو سبيلاً أو فكرة إلا وتمحصه أو تجربه، وينبغي ألا تشغلها مصارعة الموجة الحالية التي ستنكسر بلا شك، عن التفكير العميق في كيفية الخروج من دوامة الأمواج العاتية المتتالية لعلها تجد مخرجاً أو تصادف منقذاً.
مشاركة :