بعد التفجيرات الإرهابية الأخيرة في باريس التي تبنّاها تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» انشغلت الصحافة الألبانية بعلاقة الإسلام بالإرهاب، ما فتح المجال للأصوات المهووسة أن تظهر على السطح لتوجّه اتهامات مباشرة للإسلام وتحمّله مسؤولية الإرهاب في فرنسا والعالم. ولكن هذه الأصوات التي تنتظر مثل هذه المناسبات لتصبّ الزيت على نار الإسلاموفوبيا في العالم الألباني (ألبانيا وكوسوفا ومقدونيا وجنوب صربيا وجنوب الجبل الأسود) الذي يتميّز بغالبية مسلمة ذات تراث متسامح، تنحسر أمام نقاشات النخبة الألبانية التي تثري هذا الموضوع وتقدّم فيه إضافة تستحق أن توصل إلى بقية العالم. في هذا النقاش الذي ساهم فيه ثلاثة من أبرز المثقفين في ألبانيا وكوسوفو بدأه الكاتب والروائي بن بلوشي (1969)، عضو البرلمان الألباني عن الحزب الاشتراكي الذي أثارت روايته الأولى «أن تعيش في جزيرة» (تيرانا 2007) انتقادات باعتبارها تتحامل على الإسلام والمسلمين في ألبانيا خلال الحكم العثماني. فقد نشر بلوشي مقالة يسلّم فيها بمسؤولية الإسلاميين عن الإرهاب الحاصل ويرى أن الحل يكمن في «تخفيف غلواء مفاهيم الإسلام بمساعدة الغرب». وقد أثار هذا الموقف اثنين من المثقفين الألبانيين ليساهما بدورهما بمواقف مختلفة أكثر نضجاً وتنوعاً: الكاتب والروائي فاتوس لوبونيا (1951) الذي عانى من معارضته للحكم الشيوعي السابق (الذي ألغى الدين في 1967 وأعلن ألبانيا «أول دولة ملحدة في التاريخ») وقضى 17 سنة في السجن حتى 1991، والكاتب والروائي الكوسوفي المعروف فيتون سوروي (1961) الذي عرف بمعارضته لسياسة سلوبودان ميلوشيفيتش في كوسوفو ولسياسة الحكومات التي جاءت بعد حرب 1999 واستقلال كوسوفو في 2008. ويبدو من هذه النقاشات التي نشرها موقع «لابس. أل» الألباني في شهر كانون الأول (ديسمبر) المنصرم أن الاختلافات بينهم لا ترتبط بالخلفية الدينية – الثقافية المختلفة أو بثنائية مسلم- مسيحي بل بثنائية الموقف المتماهي مع الغرب – الموقف النقدي من الغرب وثنائية فهم الإسلام من الداخل – فهم الإسلام من الخارج. فموقف بلوشي المسلّم بعلاقة الإسلام بالإرهاب والداعي إلى «تخفيف غلواء الإسلام بمساعدة الغرب»، ردّ عليه سوروي بأن الإسلام لا ينتج الإرهاب بالضرورة والقول بإلهام الإسلام للإرهاب يشبه القول بإلهام المسيحية للهولوكوست، ولا يمكن «تخفيف غلواء الإسلام» لأن الإسلام ليس واحداً الآن بل «موجود بأشكال مختلفة» ومن ذلك «الإسلام الألباني» الذي يتحول بعضه من «إسلام تقليدي» يقوم على التسامح إلى «إسلام خطر» يشارك أفراده في «الجهاد» مع «داعش». أما لوبونيا فهو أكثر وضوحاً حين يردّ على بلوشي بالقول إن «الأعمال الإرهابية التي نراها ليست مستلهمة من الإسلام بل من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والجهل والنزعات القومية والفساد وإساءة استخدام السلطة في العالم الإسلامي». وبعبارة أخرى فقد عبّر عن اتفاقه مع سوروي على أن الإسلام ليس مسؤولاً عن الإرهاب بل «انه يُستخدم أداة من قبل البعض». وفي توضيحه لذلك يميّز لوبونيا بين نوعين من الدين – التديّن: الدين كأسلوب حياة يقوم على القيم الأخلاقية ومنها التسامح والتعايش مع الآخر، والدين كأداة للتعبير عن هوية في وجه الآخر – العدو. ومع أن لوبونيا ليس مسلماً إلا أنه يشيد بتقاليد الإسلام خلال الحكم العثماني في البلقان الذي استمر خمسة قرون وسمح لكل المسيحيين الموجودين بأن يستمروا حتى اليوم، بل ورحّب باليهود الهاربين من الاضطهاد الديني في اسبانيا. وينتهي إلى القول إن» روح التعايش هذه مع الآخر في سلام لا تزال سائدة في العالم الإسلامي اليوم، في حين أن الأعمال الإرهابية التي نراها اليوم ليست مستلهمة من الإسلام بل من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية». ويرفض كل من سوروي ولوبونيا دعوة بلوشي إلى «تخفيف غلواء الإسلام بمساعدة الغرب». وفي حين يركّز سوروي على تعدّدية فهم الإسلام وعدم وجود مركز واحد للإسلام في العالم على نمط المسيحية (بطريركية اسطنبول وفاتيكان الكاثوليك)، يذهب لوبونيا إلى الاستشهاد بما حصل للمسيحية خلال الانتقال التاريخي من العصر الوسيط إلى العصر الحديث. ويسأل بلوشي اذا كان ذلك يشمل «تخفيف غلواء المسيحية» وإذا كان الجواب كذلك يسأله: من الذي ساعد المسيحية على ذلك حتى نطلب منه المساعدة لأجل الإسلام؟ ولكن سؤال لوبونيا افتراضي لأنه يعتقد أن المسيحية تطورت بفضل انفتاح الكنيسة على الآخر وانفصال الكنيسة عن الدولة «ما يحدّ من استخدام الدين أداة من قبل السلطة الدنيوية»، ويذكّر هنا بظهور الأفكار والايديولوجيات الشمولية (الرأسمالية والشيوعية والفاشية والنازية الخ) التي خلقت «أدياناً» جديدة في الغرب. أما البديل الأفضل من «تخفيف غلواء» الإسلاميين فيراه لوبونيا في «تخفيف غلواء الإنسان في الشهوة للسلطة والسيطرة والاستبداد». أما في ما يتعلق باستدعاء الغرب للتدخل فتختلف المواقف هنا على اعتبار أن ألبانيا كانت تمثل تاريخياً الجسر بين الشرق والغرب. ففي حين لا يرى بلوشي الحل إلا باستدعاء الغرب حتى في ما يتعلق بـ «تخفيف غلواء الإسلام»، نجد أن مواقف لوبونيا أكثر نقدية تجاه الغرب وأكثر تحميلاً له للمسؤولية عما يحصل في العالم الإسلامي الآن. وهكذا فهو يقول أن مساعدة الغرب ليست مفيدة بالمطلق بل قد تكون مضرّة أحياناً كما حدث مع التدخل العسكري في العراق عام 2003 «تحت راية الديموقراطية الغربية»، اذ «إن مشاكل العراق التي يعاني منها الآن ليست سوى نتيجة لمثل هذا التدخل الغربي».
مشاركة :