أعلن الرئيس باراك أوباما الأسبوع الفائت عن مجموعة من الخطوات التنفيذية الهادفة إلى تشديد القيود على حيازة الأسلحة النارية في الولايات المتحدة. وعلى رغم التأطير المهيب للإعلان، فإنه من الصعب توقع نتائج فعلية مؤثرة خارج إطار التجاذب الانتخابي. تنظيم حيازة السلاح الناري من أكثر المسائل الخلافية إثارة للجدل في الولايات المتحدة، بين من يعتبر أن حق اقتنائه هو من صلب الهوية الوطنية، كما أنه ثابت في النص الدستوري، ومن يرى أنه لا بد من تقييد لهذا الحق تصحيحاً لحالة الانفلات القائمة والتي تؤدي إلى أعداد متفاقمة من الضحايا. والاصطفاف في هذا الشأن يندرج على الغالب في إطار الاستقطاب العقائدي بين التوجهين المحافظ المهيمن على الحزب الجمهوري والملتزم بحق حيازة السلاح، والتوجه التقدمي السائد في أوساط الحزب الديموقراطي والداعي إلى تقييده. والواقع الذي لا خلاف في شأنه أن امتلاك السلاح والاتجار به من الأمور المترسخة في المجتمع والثقافة في الولايات المتحدة. وتجارة السلاح السنوية تبلغ مئات الملايين من القطع. وفي حين أن القوانين المتبعة تفرض على تاجر السلاح التسجيل لدى السلطات وتلزمه بإجراء تدقيق بخلفية المشتري، حيث أن الحق بافتناء السلاح يسقط عن المدانين بالجرائم الجنائية والمصابين بالأمراض النفسية الخطيرة، فإن تعريف تاجر السلاح لا إجماع في شأنه. يخرج عن هذا التعريف تحديداً من يبيع السلاح في الأسواق الدورية المتنقلة، أي خارج إطار المؤسسات التجارية الثابتة. ويجري في هذه الأسواق غير الخاضعة للقيود تداول نسبة عالية من مبيعات السلاح. وما لا خلاف في شأنه كذلك أن نسبة جرائم القتل في الولايات المتحدة مرتفعة إلى درجة تنقلها من مصاف الدول المتقدمة في النظام والاقتصاد، وتلقي بها ضمن مجموعة الدول الفقيرة والضعيفة. وسبب هذه المفارقة، من وجهة نظر الدعاة إلى تقييد السلاح الناري، هو لزاماً الإباحة غير المشروطة لانتشار السلاح. والإحصاءات الكفيلة بدعم وجهة النظر هذه متوافرة: فحيث فرضت إجراءات التقييد انخفضت حوادث القتل، وحيث رفعت هذه الإجراءات ازدادت الحوادث. لكن دعاة الدفاع عن حق اقتناء السلاح يشيرون إلى الاجتزاء في إشهار نتائج الإحصاءات لأغراض سجالية، ويشتكون من جهة أخرى من أنه لا يتم تطبيق القيود القائمة لتوّها لتبين مدى كفايتها قبل الحديث عن فرض المزيد منها، ويلحظون أن جملة القيود الجديدة المقترحة لو كانت سارية المفعول لما منعت العديد من الحالات الرهيبة التي يستدعيها دعاة التقييد لتعزيز مواقفهم. فعلى الصعيد العملي، الخلاف القائم هو بين من يرى أنه لا بد من مزيد من الإجراءات، ومن يرى أن الأجدى تطبيق الإجراءات القائمة. أما من حيث المبدأ، فالخلاف هو بين رؤيتين لدور الدولة في المجتمع. فالتوجه التقدمي يرى أنه لا بد من توسيع هذا الدور لحماية المواطن، فيما التوجه المحافظ يعتبر أن التوسيع من شأنه تقييد المواطن المنضبط، من دون أن يعترض قدرة المجرم على الحصول على ما يشاء من السلاح. وخلاصة الموقف التقدمي هي أنه لا بد من حصر السلاح صوناً للحياة، فيما خلاصة الموقف المحافظ أن صون الحياة يكون بملاحقة المجرمين، لا بالتضييق على المواطنين المنضبطين. والقضية محسومة موضوعياً لمصلحة الرؤية المحافظة. وفي حين تنشط الجمعيات الداعية إلى التقييد في مختلف الولايات، وقد تتمكن بالفعل من استصدار بعض التشريعات المحلية لمقادير من التدقيق والحد، فإن أعلى سقف لهذه الجمعيات، ولجهود السياسيين المؤيدين لها على المستوى الاتحادي، هو اعتراض مبيع مئات الآلاف من قطع السلاح سنوياً، أي بنسبة متلاشية من حجم القطاع. وعلى رغم ذلك، فالناشطون في هذه الجمعيات، ومعهم الرئيس أوباما، لا يعتبرون ان جهودهم دون جدوى، من باب أن ما لا يدرك جله لا يترك كله. وهذا تحديداً ما أشار إليه الرئيس أوباما عند إعلانه عن جملة من الخطوات التنفيذية الأسبوع الماضي، حين أكد أن كل خطوة بهذا الشأن، مهما كانت متواضعة، هي خطوة بالاتجاه الصحيح إذ تقلل انتشار أدوات القتل. غير أن هذه القناعة المبدئية التي يلتزمها الرئيس تتعارض مع واقع مخالف من النتائج العكسية. إذ كلما تحدّث الرئيس عن هذه الخطوات، وهي خلافاً للخطاب المهيب فائقة التواضع في أفق طموحها، شهدت مبيعات الأسلحة النارية تزايداً ملحوظاً، احتساباً لاحتمال منع، من المحال أن يحدث، لتداول السلاح. أوباما ذرف الدموع عند إعلان خطواته، تأثراً بضحايا قتلى السلاح الناري. ودموعه نالت الإشادة من دعاة التقييد، والسخط والاتهام بالنفاق من دعاة المحافظة على الحق بالسلاح. على أن ثمة تفاوتاً غريباً بين جلال الإعلان، وما استقدمه من مظاهر الأهمية، ومحدودية المضمون في خطوات الرئيس. فمعظم قراراته جاءت بصيغة التوجيه للأجهزة الرسمية نحو المزيد من التدقيق، أي أنها مبهمة وغير ملزمة. أما القليل منها الذي جاء بالجديد، فخاضع لاعتراضات فورية لدى السلطة القضائية من دعاة المحافظة على الحق بالسلاح، سواءً لجانب التعدي المزعوم على الحق الدستوري بحيازة السلاح، أو لجانب تجاوز الرئيس صلاحيات السلطة التنفيذية وتعديه على صلاحيات السلطة التشريعية. وإذا ما أقرّت الجهات القضائية بعض ما أصدره الرئيس في مراسيمه، فإنه يبقى خاضعاً كي يبلغ مبلغ التحقيق إلى موافقة السلطة التشريعية على ما يتطلبه من موازنة. والسلطة التشريعية التي يمسك الجمهوريون بقرارها لن تمنح الرئيس هذه الموافقة. ما الهدف من خطوات الرئيس هذه إذاً؟ هو من دون شك موقف للتاريخ، وإن جاء كما الكثير من مواقف باراك أوباما مقتصراً على الرمزية. ولكنه كذلك مساهمة في تعبئة انتخابية للصف التقدمي، وإن استفاد منه بدرجة تبدو أكثر أهمية المتنافسون الجمهوريون لتعبئة مضادة للصف المحافظ. ففي الحد من السلاح وفي التعبئة الانتخابية، الخطوات هزيلة وذات نتائج عكسية متينة، وهي، شكلاً ومضموناً، عرضة للنسيان. أما دموع الرئيس، فتبقى للتاريخ.
مشاركة :