يرى لويس فان غال ببساطة أن امتلاك الكرة يظهر مدى الطموح، لكن الاستحواذ عليها والتسديد على المرمى وحتى تسجيل الأهداف لا تمثل بالضرورة عناصر إشباع للجماهير. فبعد مباراة مانشستر يونايتد التي انتهت بالتعادل السلبي مع ويستهام في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، ادعى فان غال أنه وقع في حيرة بسبب ضغوط الجماهير بملعب أولد ترافورد ومطالبتها لفريقه بمزيد من الهجوم، حيث قال: «لم أفهم معنى صياحهم المستمر (اهجم اهجم)، لأننا كنا الفريق المهاجم بالفعل، وليس ويستهام». بتلك الكلمات أثار فان غال سؤالا يبدو جوهريا في كرة القدم، لكن الإجابة عنه صعبة بحال: ماذا يعني الهجوم؟ وأضاف فان غال: «نحن أكثر سيطرة على الكرة من خصومنا، فكلما زادت نسبة استحواذك على الكرة، زادت قدرتك على صناعة الفرص الحقيقية، لا على تمرير الكرة يمينا ويسارا من دون تسجيل هدف». ولذلك بالنسبة لفان غال، فالاستحواذ على الكرة يعني الهجوم، فهو يرى أن الأهداف سوف تأتي من الاستحواذ. وأوضح: «في رأيي أن تسجيل الأهداف ربما لا يأتي بالضرورة بالاستحواذ، فالأمر يتطلب كثيرا من الحظ والتوفيق أيضا». ويعتبر عنصر الحظ مهما إلى حد بعيد، فهناك مباريات يؤدي فيها الفريق بشكل رائع وتتاح له عشرون فرصة لكنه يفشل في التسجيل، ربما بسبب مهاجم غير موفق أو مهاجم عانده الحظ بسبب تألق حارس المرمى في تلك المباراة، أو بسبب تكتل مدافعي الخصم في منطقة الجزاء، أو بسبب ارتطام الكرة في القائم وارتدادها للخارج بدلا من الدخول في الشباك، كل هذا وارد الحدوث. فالأهداف وحدها ليست مقياسا على كثافة هجوم الفريق (وإن كانت هناك ثمة صلة بين الهجوم وتسجيل الأهداف عند قياس ذلك خلال فترات زمنية أطول). أتيحت لمانشستر يونايتد 21 فرصة أمام ويستهام، لكن لا يمكن النظر إلى فرصة واحدة منها على أنها محصلة لأداء هجومي حقيقي، وهي وجهة النظر التي ربما يعترض عليها فان غال. فمن بين كل تلك الفرص المتاحة لم تسدد سوى كرة واحدة على المرمى، وهو ما يوضح عدم فاعلية هجوم مانشستر يونايتد. ومن خلال متابعة الهجمات، نستطيع القول إن ثماني تسديدات جاءت من خارج منطقة الجزاء (وثلاث تسديدات جاءت من على حافة منطقة الجزاء)، وجاءت تلك التسديدات من ألعاب ثابتة. لم يسفر هجوم مانشستر يونايتد عن فرص حقيقية، واستمرت المشكلات بعد ذلك، حيث لم يسجل الفريق سوى أربعة أهداف في المباريات الخمس التالية في مسابقة الدوري العام رغم أن عدد التسديدات على المرمى في تلك المباريات بلغ 21 تسديدة. لكن حتى الحديث عن عدد ونوعية الفرص المتاحة يبدو مقياسا خاطئا للحكم، لأن ما يهم هو نتيجة الهجمات وليس سببها. ولذلك عندما نعرف شكل الهجمات؛ سواء كانت أهدافا أو تسديدات أو فرصا أو تمريرات، فهل توجد طريقة معينة نصنف بها شكل تلك الهجمات؟ الاستباق والتفاعل شن المنتخب الألماني هجمات مرتدة بشكل عبقري خلال مباريات كأس العالم 2010، غير أن بعض الجماهير اعترضت على تكتيك اللعب الذي وصفوه بالتفاعلي المعتمد على رد الفعل. قد يكون من الممكن تقسيم كرة القدم إلى قسمين: منهج استباقي وآخر تفاعلي (يعتمد على رد الفعل)، حيث يلجأ اللاعبون في المنهج الأول إلى اللعب بالكرة والسعي للاستحواذ عليها أمام فريق يلعب من دون كرة ويلعب فقط على الهجمات المرتدة، رغم أن الأسلوب الأخير أكثر تعقيدا على عكس ما يبدو للوهلة الأولى. فخلال بطولة كأس العالم 2010، كانت ألمانيا هي الجانب التفاعلي الذي شن هجمات مرتدة بشكل عبقري، مما أثار انتقادات غير معتادة، حيث يعتبر الناس كلمة تفاعلي إهانة وينظرون للهجمة المرتدة بشيء من الازدراء. بيد أن ذلك تغير الآن بكل تأكيد، حيث أظهر فريق بروسيا دورتموند الذي كان يدربه يورغن كلوب كمًا من الإثارة التي تنطوي عليها الهجمات المرتدة، في حين لاحظ الكثيرون أسلوب الاستحواذ الممل الذي يتبعه المنتخب الإسباني. هنا فقط تتداعى نظرية الربط بين المنهج الاستباقي - التفاعلي من ناحية، والاستحواذ وعدم الاستحواذ من ناحية أخرى. فمن ناحية، كانت نسبة استحواذ فريق مانشستر، الذي يدربه فان غال، في مباراته أمام فريق ويستهام، 58 في المائة، غير أن الجماهير لم تر أن فريق مانشستر يهاجم الخصم. ومن ناحية أخرى، فإن الضغط عن طريق الهجوم المنظم على الخصم يعتبر أبعد ما يكون عن المنهج التفاعلي، فبمقدورك القيام بهجمة مضادة بالتراجع للخلف وانتظار الكرة حتى تأتي إليك، ويمكنك أيضا القيام بهجمة مرتدة عن طريق تعقب الكرة حتى آخر ملعب الخصم، وعليه فإن الهجمة المرتدة قد تكون تفاعلية أو استباقية. ليس هذا فحسب، ففريق فان غال (لا ينطبق هذا على مانشستر يونايتد فقط) غالبا ما ينجح في تطبيق المنهج التفاعلي، حيث يعتمد على تحري مبدأ السلامة وتفادي المغامرة انتظارا للحظة وقوع الخصم في الخطأ على غرار أسلوب جوزيه مورينهو الذي لا يحبذ مبدأ الاستحواذ على الكرة كثيرا. قبل بطولة كأس العالم 2014 بوقت قصير، كنت أحد المحكمين ببرنامج «بليزارد سؤال وجواب»، حيث أصر أحد الحاضرين على أن ما أراده من الفريق الإنجليزي لم يكن الفوز بل الهجوم. وعندما سألته عما يقصده أجاب بأنه كان يتمنى لو أنه شاهد المزيد من المهاجمين في الفريق، وأعتقد أن هذا منطقي. لكن المشكلة هي أنه يتحتم على هؤلاء المهاجمين امتلاك الكرة أولا ثم التفكير في بناء الهجمات بعد ذلك، وهو الدرس الذي لا يزال فلورنتينو بيريز، على سبيل المثال، مصرا على تعلمه. يعود بنا موضوع الاستحواذ على الكرة لموضوع الاستباقية والتفاعلية. فإذا كان لديك لاعبون مهرة بشكل كاف، فإن بمقدورك الاستحواذ على الكرة والاحتفاظ بها مثلما يفعل فريق فان غال، على اعتبار أن تمرير الكرة سوف يرهق وينهك قوى الخصوم. فبمقدورك اللعب في نصف ملعبك اعتمادا على مدافعيك وعلى قدراتك الدفاعية المحكمة القادرة على الاستحواذ على الكرة ثم شن هجمات مرتدة، مستفيدا من ميزة فقدان الخصم المنشغل بالهجوم لتوازنه وتركه لمساحات خالية يمكنك استغلالها. وتستطيع كذلك الضغط والسعي للاستحواذ على الكرة مستغلا ميزة التحول المفاجئ من الدفاع للهجوم التي تعتبر أكثر فائدة من الهجوم ضد دفاع متمركز مستعد. في أغلب الأحيان تؤدي الفرق بتلك الطرق الثلاث لكن بمعدلات متفاوتة. ففي الدوري الممتاز هذا العام، لاحظنا كيف أن الطريقتين الأولى والثانية كانتا أكثر شيوعا من الثالثة، وهو ما يفسر تراجع أهمية اللعب على ملعبك مقارنة بالوضع في السابق، فقد أصبحت الهجمات المرتدة أكثر شيوعا من الهجوم، على الرغم من اللبس في فهم أن الهجمة المرتدة (ضغط الفريق في أعلى ملعب الخصم لاستعادة الكرة) هي أوضح مثال على الطريقة الاستباقية الأكثر انتشارا وشيوعا الآن والتي كانت سببا في العديد من الأهداف الناتجة عن الهجمات المرتدة بمعدلات تفوق ما رأيناه في العقد الماضي. نفذ مانشستر يونايتد 81 تمريرة عرضية أثناء مباراته في الدوري العام أمام فريق فولهام في فبراير (شباط) 2014 ورغم ذلك فشل في تحقيق الفوز. بمقدورك تقديم أداء مثير بنسبة استحواذ 40 في المائة، وقد تؤدي كرة قدم مملة رغم استحواذك على الكرة بمعدل 60 في المائة، وبمقدورك أن تكون مملا بعشرين فرصة أتيحت لك، وقد تكون في غاية الإثارة بخمس فرص فقط. وفي تصريح لديفيد وينر، المحرر بمجلة «بريليانت أورانج»، قال سجاك سوارت، جناح فريق أياكس أمستردام الهولندي في حقبة السبعينات من القرن الماضي، إن الأهم من النتائج هو الحالة المزاجية.. «فلم يحدث أن أعدت الكرة للمدافعين». جاء تعليق سوارت كنقد لطريقة أداء جناحي فريق أياكس في حقبة التسعينات، مارك أوفرمارس وفينيدي جورج، حيث كان اللاعبان يعمدان إلى التراجع في حال واجها ضغطا من خصمين. وأضاف سوارت: «هذا أمر غير معقول، لكن هذا ما نراه مع فان غال، فنرى فريقه نائما في الكثير من المباريات، ففي التلفزيون نشاهد الإحصائيات تقول إن نسبة استحواذ أياكس تبلغ 70 في المائة. ما هذا، هذه ليست كرة قدم؟ لقد ضاع الإبداع». يريد سوارت أن يرى الجناحين يضغطان على المدافعين، وأن يغامرا بفقد الكرة. ويبدو أن مشجعي مانشستر يونايتد الذين يتحدثون الآن عن طريقة لعب ناديهم الكلاسيكية يقصدون تلك المباريات التي تعتمد على اللعب بعرض الملعب وعلى الأجناب حيث تمرير الكرات العرضية إلى داخل الصندوق، ومن المعروف أنه من الصعب تغيير أسلوب لعب الفرق. لكن في الكرات العرضية يغامر الفريق أيضا بفقدان الكرة. فالمتعة التي قدمها فريق دورتموند الذي كان يقوده يورغن كلوب تعتمد على سرعة نقل الكرة للأمام، حتى وإن انطوى ذلك على مغامرة فقدان الكرة. إذا تم تجريب تلك الأساليب الثلاثة فسوف تكتشف أن أيا منها لا يصلح وحده لأن يكون دواء لجميع الأمراض. راوغ كثيرا وسوف تنتهي المباراة بأداء فردي متكلف لا يرقى حتى لمستوى الكرة في الستينات والسبعينات من القرن التاسع عشر قبل أن يخترع الاسكوتلنديون مهارة التمرير. نفذ تمريرات عرضية كثيرة وسوف ينتهي بك الأمر مثل فريق مانشستر يونايتد الذي كان يدربه ديفيد مويز في مباراته أمام فولهام في فبراير 2014، التي نفذ فريقه فيها 81 عرضية من دون نتيجة تذكر. مرر الكرة للأمام بسرعة كبيرة وسوف ينتهي الأمر بأداء طولي عديم المعنى وعقيم مثل ذلك الذي بليت به الكرة الإنجليزية لفترة طويلة. وعلى سبيل المثال، حدثت حركة ارتجاعية في الأرجنتين ضد مارسيلو بيلسا بعدما لوحظ أن هناك الكثير من الفرق أصبحت الآن تلعب بسرعة زائدة وبشكل مباشر للغاية على غرار ما يقدمه بيلسا من أسلوب لعب طولي يفتقد كثيرا للتنظيم التكتيكي الذي يضفي فاعلية وتأثيرا على الأداء. يعتبر التوازن جزءا من الموضوع، لكن الذكاء لا غنى عنه، فتكرار نفس الخدعة مرات ومرات قد يعكس الرغبة الهجومية، لكن التأثير والأداء لن يخلو من الملل. ولذلك يجب أن يكون هناك نوع من المغامرة، لكن يجب أن تكون هناك قاعدة لدعم هؤلاء المغامرين، فالتمريرات القصيرة قد تشكل هجوما، مثلما أن التمريرات الطويلة تعتبر هجوما أيضا، ومثلما أن اللعب بالكرة يعتبر هجوما فاللعب من دون الكرة يمكن أن يكون هجوما أيضا. والكرة الاستباقية يمكن أن تكون هجومية، مثلما أن الكرة التفاعلية يمكن أن تكون هجومية أيضا، ومثلما أن المراوغة يمكن أن تكون هجومية فإنه يمكن للكرة المعتمدة كليا على التمرير أن تكون هجومية أيضا. فالهجوم، شأنه شأن غيره من تكتيك كرة القدم، يتسم بالغموض ويعتمد على السياق العام إلى حد بعيد. في النهاية، فإن الهجوم في الكرة أشبه بالتعريف الشهير للقاضي الأميركي بوتر ستيوارت في وصفه للصور الإباحية الذي قال فيه: «من الصعب تعريفها، لكنك تعرفها عندما تراها».
مشاركة :