الموقف السعودي سياسياً هو موقف نضج ووعي دولي ومستحق، ونحن اليوم أمام فكرة محورية القرار السياسي تجاه العالم، حيث لا يجب أن يكون هناك تحيز يؤثر على المصلحة الدولية.. العلاقات السعودية - الأميركية عمرها ثمانية عقود من الارتباط الاستراتيجي، وخاصة أن تلك العقود أصبحت أعمدة صلبة وقوية في بناء توجهات الاستراتيجيات الأميركية نحو سياسات النفط والاقتصاد العالمي ونحو سياسات منطقة الشرق الأوسط التي تعتبر الأهم لأميركا، حيث تتحكم هذه المنطقة فعليا في صناعة الأجواء الدولية سياسياً، فالشرق الأوسط منطقة التقاء دولي على جميع المستويات ومن يفز بتوجهات الشرق الأوسط يفز بأكبر أدوات الاستقرار العالمي ويمتلك القوة الفارقة، وهذا ما حصلت عليه أميركا لسنوات طويلة. السعودية ثاني أكبر منتج للبترول في العالم وتقع تحت مسؤليتها المحافظة على إمدادات النفط في العالم والتوازن في الأسواق العالمية من خلال منظمة أوبك، أكبر تجمع دولي للطاقة يضم أكبر دول العالم إنتاجا للبترول، فالسعودية اليوم تعتبر القائد العربي الأكثر تأهيلا في قيادة المنظمومة العربية والمتصدية لكل الأزمات المحيطة بالشأن العربي، وهي قبلة المسلمين، حيث تعتبر مكة والمدينة المنورة المدينتين الأهم روحانيا لكل المسلمين على هذا الكوكب بلا منافس، وقد دفعت هذه المكتسبات المملكة نحو المقدمة فالكل ينظر إلى السلوك السياسي والاقتصادي السعودي ويترقب نتائجة وتأثيراته. العلاقات السعودية - الأميركية رسمها ذلك اللقاء التاريخي الذي جمع الملك عبدالعزيز - رحمه الله - والرئيس الأميركي روزفلت على متن البارجة الأميركية "كوينسي" بالبحر الأحمر في فبراير عام 1945م، إذ يوصف ذلك اللقاء بأنه وضع حجر الأساس للعلاقات التقليدية الوثيقة بين البلدين، وعلى مر ثمانية عقود مضت كان البناء الاستراتيجي السعودي - الأميركي يتم بشكل تراكمي، وهذا ما جعل العلاقات السعودية - الأميركية راسخة ويصعب التأثير فيها بشكل مباشر حتى ولو كان مصدر ذلك التأثير رئيس أميركا نفسه أو أي حزب أميركي. المشهد الإعلامي القائم اليوم من الطرف الأميركي يروج لفكرة اهتزاز هذه العلاقة ويهتم بفكرة القدرات المتاحة للبيت الأبيض في التعامل مع واقع اقتصادي عالمي يتم جره نحو التسييس، فالمصالح الخاصة عندما تلتقى بالمصالح الدولية فإنه من الواجب مراعاة الحاجة الدولية مهما كانت قاسية أو غير مقبولة، وهذا ما مارسته منظمة أوبك التي ترى أن الأزمة الروسية - الأميركية والتي تتخذ من أوكرانيا مسرحا لها ليست جزءاً أساسياً في صناعة الاتجاه العالمي لكي يتم التحيز لها على حساب قضايا دولية أخرى، المشهد الأيديولوجي الذي يحكم الأزمة الروسية - الأوكرانية مشهد معقد تختلط فيه الحقوق التاريخية التي تحمل مفاهيم متناقضة هي في النهاية مسؤولية الأطراف المتنازعة وليست مسؤولية دولية شاملة. الموقف السعودي سياسيا هو موقف نضج ووعي دولي ومستحق، ونحن اليوم أمام فكرة محورية القرار السياسي تجاه العالم، حيث لا يجب أن يكون هناك تحيز يؤثر على المصلحة الدولية، وخاصة عندما تسعى أطراف الأزمة الدولية لجعل منظمات دولية كمنظمة أوبك في موقف متأرجح، لأنه من الواضح أن منظمة أوبك تشعر بالكثير من الاختلال في مسار العلاقات التي تحكم روسيا بأميركا وأوروبا بعد أزمة أوكرانيا، وهذا ما يتطلب منها أن تكون أكثر صراحة ووعيا، فنتائج الأزمة الروسية - الأوكرانية غير محسومة سياسياً بل غير متوقعة، كما أن منظمة أوبك لا يمكن لها أن تكون جزءا من نظام عالمي متحيز، فالطاقة تهم كل ساكني هذه الأرض والبترول أحد أهم المنتجات في العالم التي تحتاجها البشرية. لا بد ألا يكون مقبولا أن يتم تقييم العلاقات الدولية والثنائية بين الدول وفقا لموقف جماعي اتخذته مجموعة من الدول ذات التأثير العالمي في توفير الطاقة، ويبدو أنه للمرة الأولى عالميا التي تثبت الطاقة أنها محور توازن دقيق للاستقرار العالمي، وبصورة عامة يمكننا القول إن الذين اهتموا بالعلاقات السعودية - الأميركية بعد خفض إنتاج منظمة أوبك كانوا مجموعتين، الأولى ترى أن البعد التاريخي هو ما سوف يحدد في النهاية المسافة التي يجب أن تصل إليها هذه الأزمة، والمجموعة الثانية وهي التي ترى أنها قادرة على إرباك العلاقات الراسخة بين البلدين من خلال عمليات الشد والجذب السياسي المرتبط بممارسة تقييم الواقع وفقا لمنطلقات لم تعد مقبولة بشكلها التقليدي، فالعالم اليوم يستعد لتحولات كبرى في النظام الدولي. العالم اليوم في حقيقته يتجه إلى صراع قيمي وصراع هوية تديرها السياسية ويمتد إلى أعمق التفاصيل المجتمعية، وهناك من دول العالم من يحاول الترويج المباشر لذلك الصراع القيمي كونه جزءا من العمليات السياسية الدولية، وهذه هو المنعطف الأخطر والذي يدفع بالدول الفاعلة سياسيا واقتصاديا أن تعمل على معالجته، فمفهوم الحريات السياسية الذي تروج له بعض القوى العالمية والادعاء بامتلاك القدرة على تغيير الواقع لم يعد مقبولا لأن توازنات العالم لا تمتلكها دولة بعينها.
مشاركة :