غادر القطار باريس باتجاه الشمال في الوقت المحدد له. وصلنا ستراسبورغ بعد ساعتين و13 دقيقة قطع خلالها القطار السريع (T.G.V) مسافة 491 كلم. بعد فترة وجيزة من المغادرة، بدأت تتراءى الأشجار بكثافة مشكِّلة لوحة فنية جميلة، لوَّنها فصل الخريف. أوراق الشجر الصفراء تحوّلت قبل تساقطها إلى ألوانٍ عدة من الأصفر الغامق إلى البني الموشّح إلى الأصفر الفاتح بلون نار ملتهبة. كثافة الأشجار وسرعة القطار جعلتا ألوان الشجر تبدو معاً كخطوط متّصلة غير منقطعة وأفقية متوازية، فيكتمل جمال اللوحة الفنية. الحقول تمتد على مد النظر عبر نافذة القطار، وقد تمَّ حصادها قبل استحقاق فصل الخريف، وتتهيأ لإعادة زراعتها بمزروعات شتوية. أسراب الطيور السوداء انتشرت بكثرة، تأكل نصيبها من البذار المتبقية في الأرض. وبانت قطعان الأبقار والأغنام تأكل أيضاً العشب اليابس الذي تركته آلات الحصاد في تلك الحقول اللامتناهية. مع اقترابنا من محطة ستراسبورغ، بدأت تتكاثر البيوت الريفية والمستودعات والمصانع، التي حملت فوق مبانيها يافطات بأسماء فرنسية وألمانية. معظم مناطق الشمال كانت لسنوات بعيدة خلت، مرتعاً وميداناً مرعباً للحروب والدمار وعمليات نزوح السكان، حين تبادلت الجيوش الفرنسية والألمانية لذة الانتصارات ومرارة الهزائم. وما زالت بقايا التحصينات ومواقع مرابض المدفعية والجدران المهشّمة، بخاصة قرب ضفاف النهر. فقد كانت الأنهر وسيلة نقل العتاد والعسكر، لا سيما إبان الحربين العالميتين الأولى والثانية. ستراسبورغ تعني باللغة الألمانية «مدينة الطرق» لأهميتها تاريخياً عند حدود دول عدة. هي أكبر مدن مقاطعة الألزاس وعاصمتها، عدد سكانها قرابة 275 ألف نسمة، وتقع إلى جهة الشمال الشرقي من الحدود الألمانية وإلى الجنوب الشرقي من سويسرا. كما تتكئ إلى سلسلة جبال «الفوج» لجهة الشرق، وتأتي في المرتبة الثالثة بين كبريات المدن الفرنسية. ووفق تقرير مؤسسة (E.C.A) إنترناشونال لعام 2010، صنفت ستراسبورغ كأفضل المدن في فرنسا لجهة مستوى المعيشة والأكثر راحة للسكن. ونحن نزيد من جهتنا، أنها من أجمل مدن أوروبا، بخاصة في أعياد الميلاد. عاصمة أوروبا ستراسبورغ عاصمة أوروبا ومقر البرلمان الأوروبي، كما أنها تستضيف العديد من المنظمات والمؤسسات الدولية: محكمة حقوق الإنسان، هيئة إدارة الجودة الطبية، مجلس إدارة مؤسسات المرئي والمسموع، محطة «آرتي» التلفزيونية، اللجنة المركزية للملاحة في حوض الراين، المعهد الدولي لحقوق الإنسان، جمعية حماية الذاكرة الأوروبية، ومؤسسة العلوم الأوروبية. المدينة تمثل ثقلاً اقتصادياً حيث تضم العديد من المؤسسات الوطنية والبنوك العالمية، وفيها الميناء النهري الذي يأتي بالمرتبة الثانية من حيث الأهمية والحركة في حوض الراين، ومجهزة بشبكة مواصلات برية ونهرية وجوية حيث يربط مطارها الدولي معظم دول العالم. تعكس ستراسبورغ اليوم، ذروة العلاقات المتنامية بين فرنسا وألمانيا، وجسر العيش المشترك والتفاهم وارتباط المصالح المتكاملة بين الشعبين. وعلى الصعيد الجغرافي، ترتبط المدينة مع مدينة كيهل (KEHL) الألمانية بوثاق متعدد، جسر للمشاة والنزهة، وجسر آخر للمواصلات البرية (جسر أوروبا). وتتقاسم المدينتان منتزهاً كبيراً مساحته 15 هكتاراً يدعى «حديقة النهرين». وفي العام 2014، ارتبطت المدينتان بخط ترامواي. كما ترتبط ستراسبورغ مع مدينة بادن بادن بطريق سريع. جانب آخر من عناصر التلاقي بين الشعبين يتمثّل بالعلاقة بين الكاثوليك، وهم غالبية سكان فرنسا، والبروتستانت ويشكلون غالبية سكان ألمانيا. وقد خصّص القيمون على أمور كنيسة (st. pierre Le Jeane) البروتستانتية جناحاً خاصاً فيها لإقامة الشعائر الكاثوليكية. ولهذه الكنيسة قيمة تاريخية، فقد بنيت إبان القرن السابع الميلادي وفق الطراز القوطي القديم، وتتميز بأسلوب زخرفتها وبأعمدتها المتعددة التي أضيفت على مر السنين. أكبر مركز إسلامي في فرنسا وعلى صعيد العلاقة مع المذاهب والديانات الأخرى، يوجد في المدينة كنيس يهودي كبير يتوسط إحدى الساحات الرئيسية، كما تضم أكبر مركز إسلامي في فرنسا، إضافة إلى مسجد ستراسبورغ الكبير الذي افتتحه رئيس الوزراء إيمانول فاكس، في أيلول (سبتمبر) سنة 2012. وتجتذب جامعة ستراسبورغ ومعاهدها المتخصصة أعداداً كبيرة من الطلاب الأجانب. كما تضم جالية عمالية أفريقية وعربية، وقد استقر بها عدد كبير من الأطباء والمهندسين ورجال الأعمال من لبنان، اختاروا البقاء في المدينة بعد تخرجهم، يلتقون في شكل دوري في مطعم كبير يمتلكه طبيب من منطقة جزين. أزمة النازحين واللاجئين الذين يتوافدون إلى أوروبا لم تصل تداعياتها بعد إلى منطقة الألزاس بالحدة التي تعاني منها مناطق أوروبية أخرى. الأعداد التي وصلت حتى الآن لا تشكل عبئاً ولا هاجساً في أوساط المواطنين، كما أكد رئيس بلدية مدينة «شيلتيغيم» جان ماري كوتنير، وأبدى استعداد البلدية والمجتمع المدني لتقديم المساعدات الممكنة، بخاصة بالنسبة الى الطلاب الوافدين عبر إعطائهم دروساً خصوصية باللغة الفرنسية، وعبر إعادة تأهيلهم اجتماعياً ونفسياً بتشجيعهم على الانضمام إلى النوادي والجمعيات المنتشرة بكثرة. الألزاس خصوصية التاريخ والجغرافيا مقاطعة الألزاس تقع إلى الجهة الشمالية الشرقية من فرنسا وإلى الضفة الغربية من حوض نهر الراين الأعلى، حيث يقطع هذا النهر مساحة 190 كلم داخل حدود المقاطعة والمناطق الألمانية المجاورة، ومساحتها نحو 8200 كلم مربع، وسكانها حوالى المليونين. صحيح أنهم يمثلون جزءاً من التراب الفرنسي، إلا أن التاريخ والجغرافيا لعبا دوراً أساسياً ومأسوياً في تأسيس سلوك سكان الألزاس لجهة تأكيد هويتهم الوطنية. وهم يمارسون ذلك في أمور حياتهم اليومية البسيطة، وحتى اليوم هناك نسبة كبيرة من المسنين ما زالوا يتحدثون اللغة الألزاسية المشتقة من اللغة الألمانية، علماً أن اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية. وقد أبدوا انزعاجهم من القانون الصادر أخيراً القاضي بإعادة تقسيم المناطق والمقاطعات الفرنسية، والذي بدأ تنفيذه في اليوم الأول من السنة الحالية، والذي يقضي بضم مقاطعة الألزاس – لورين مع منطقة شامبان – أردين، ما سيضعف الدور الألزاسي في تلك المقاطعة المستحدثة ويفقدهم خصوصيتهم. ومقاطعة الألزاس، وأبرز مدنها ستراسبورغ ومول هاوس وكولمار وسافرين، تضم العديد من المنتجعات السياحية ومحطات التزلج. وترتبط هذه المدن بخطوط سكك الحديد السريعة (T.G.V)، ما يعزز حركة السياحة والاتصال مع العاصمة باريس. يتباهى الألزاسيون بالمطبخ الألزاسي المتميز بعض الشيء عن المطبخ الفرنسي العريق. وتضم المنطقة 5750 مطعماً في مدنها المختلفة، منها 26 مطعماً مشهوراً ومصنفاً من «دليل ميشلين» وتحمل نجمة أو أكثر لجودتها. ومن أبرز مأكولاتها الشعبية طبق «الشوكروت»، وهو عبارة عن الملفوف المطبوخ إما بأنواع دسمة من اللحوم وإما بأنواع من الأسماك. كما تنتشر أنواع من المعجنات «البراتزال» وهي شبيهة بالكعك المجدول، بعضها ممزوج بالسكاكر والشوكولا وبعضها بالأجبان، وتحضر عادة أمام الزبائن ساخنة شهية. مقاطعة الألزاس تمثل ثقلاً وازناً على الخارطة الفرنسية، اقتصادياً ومالياً وثقافياً. فهي تأتي في المرتبة الثالثة من حيث تغذية الخزينة العامة، وتحتل المرتبة الثانية من حيث وجود المصارف وقوتها، وهي الأولى في مجال استقطاب السواح وفيها الجامعة الأولى على مستوى فرنسا. أما على الصعيد الأكاديمي، فالمدن الألزاسية تضم 12 معهداً عالياً للهندسة والإدارة، كما تضم معهد التكنولوجيا العالي المخصص للهندسة الكيميائية والفيزيائية، وقد سبق أن حاز أحد أساتذتها جان ماري ليهان جائزة نوبل للكيمياء. وتعتبر الألزاس مركزاً عالمياً للاستشفاء، فيها العديد من المستشفيات المتخصصة ومراكز الأبحاث الطبية والدوائية التي يبلغ عددها 48 مركزاً. كما تضم المؤسسة الأوروبية للعلوم المؤلفة من 78 مؤسسة علمية تتبع ثلاثين دولة أوروبية. توسعت ستراسبورغ منذ بداية القرن التاسع عشر، ليصل عدد سكانها إلى حدود 150 ألف نسمة، فنشطت حركة العمران، وبنيت البيوت والمصانع، وأنشئت الحدائق العامة والمتاحف، وشقت الطرق، لتستوعب تنامي عدد السكان وتستجيب للازدهار الاقتصادي. إلا أن الحرب البروسية – الفرنسية عام 1870، كانت من سوء طالع المدينة التي تعرضت للحصار والقصف المدفعي الألماني العنيف، ما أدى إلى تعرّض الكاتدرائية لأضرار فادحة واحتراق المكتبة الوطنية وتلف محتوياتها من كتب ومخطوطات نادرة، كما تعرض متحف الفنون الجميلة للدمار. وانتهت الحرب بانتصار ألمانيا وهزيمة الجيش الفرنسي وأسر الإمبراطور نابليون الثالث. وكان من تداعيات النكسة الفرنسية إعلان ألمانيا عام 1871 ضمّ منطقة الألزاس – لورين إلى سيادتها، وظلّت ستراسبورغ تابعة للتاج الجرماني إلى أن اندلعت الحرب العالمية الأولى وأدت في نهايتها عام 1918 إلى هزيمة ألمانيا. آنذاك، أقدمت زمرة من الوطنيين الثوريين على إعلان منطقة الألزاس جمهورية مستقلة. إلا أن الجنرال هنري جيرو دخل مع قوات فرنسية ستراسبورغ يوم 22 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1919، وأعاد ضم مقاطعة الألزاس رسمياً إلى فرنسا. وثمة نصب تذكاري في المدينة يخلد تلك الذكرى. الترامواي وسيلة لاكتشاف المدينة خط الترامواي هو أكثر وسيلة تنقّل للمواطنين في ستراسبورغ، يغطي 70 محطة ضمن مساحة 53 كيلومتراً مربعاً، ويربط المدينة مع ضواحيها، إضافة إلى وصوله إلى الحدود الألمانية والسويسرية. ثمن التذكرة للاستعمال المتكرر لمدة 24 ساعة هو أربعة يورو، ويمكن التمتع عند الانتقال بين منطقة وأخرى بمشاهدة الميادين والحدائق والمحلات المنتشرة، وذلك عبر نوافذ العربة الزجاجية الواسعة. محطة الترامواي تقع مقابل الفندق الذي نزلنا فيه، في ضاحية (schittigheim) وهي بلدية مستقلة. بعد محطات عدة ولمدة عشر دقائق، وصلنا إلى الوسط التجاري لستراسبورغ. محطة «الرجل الحديدي» تقع عند ميدان واسع، ونقطة اتصال بين خطوط عدة وتخدم اتجاهات عدة. المباني المحيطة بالميدان تظهر مدى التنوع السكاني والتمايز الثقافي. مبانٍ زجاجية حديثة وضخمة تؤوي الشركات والبنوك الكبرى والمتعددة الجنسية. بيوت مستقلّة تتألف من طابق واحد أو طابقين، تلتصق بواجهة المباني، عوارض خشبية بالطول وبالعرض تمثل البناء التقليدي الألماني. وثمة أحياء بكاملها بنيت وفق الطراز الباريسي المعروف بحقبة أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. بنايات مؤلفة من أربعة أو خمسة طوابق، المدخل الرئيسي الواسع المصنوع من الحديد المجدول «فير فورجيه»، وكذلك أحيطت الشرفات بالنوع ذاته من الحديد. الجنائن في كل مكان، وقد زاد موسم الخريف من جمال أشجارها المتنوعة. ويقطع نهر الراين أو أحد روافده العديد من مناطق المدينة. ووسط إحدى الساحات، يقوم مبنى نصف دائري تحيط به أعمدة متعددة أسطوانية الشكل، تحسبه قصراً منيفاً أو مقراً حكومياً. إنه مركز جامعة ستراسبورغ التي تحتل المركز الأول بين الجامعات الفرنسية. ومن أهم الاختصاصات التي تدرس بها: الطب والإعلام وتكنولوجيا المعلومات، وتضم 42 ألف طالب، 20 في المئة منهم من الأجانب. ويحتوي الوسط التجاري التاريخي للمدينة على منطقة تُعرف بـ «الجزيرة الكبرى» وتقع عند روافد نهر الراين، وهي من ضمن لائحة الأونيسكو للتراث العالمي وتحتوي أيضاً مزيجاً سكانياً متنوعاً من أصول فرنسية وألمانية، إضافة إلى عدد من مراكز المنظمات الدولية. أوصلنا الترامواي مجدداً إلى محطة كليبير، ميدان يضمّ بعض المحلات الكبرى «مولات»، ويتّصل بشوارع عريضة عدة تضم أبنية راقية يغلب عليها الطابع الفرنسي. وينتصب وسط الساحة، تمثال لمارشال فرنسا جان باتيست كليبير، أحد أهم قادة جيوش نابليون، الذي ولد في ستراسبورغ وقتل في مصر عام 1800 إبان الحملة الفرنسية التي بدأت عام 1798، على يد مواطن مصري يدعى سليمان الحلبي، مسدداً بخنجره أربع طعنات مميتة. ومن أبرز الأماكن جذباً للسياح، كاتدرائية ستراسبورغ وقصر روهان وسد فان بان ومتحف الألزاس. وتنتشر فيها المقاهي والمطاعم ومحلات الأزياء المعروفة ومحلات الهدايا التذكارية المتنوعة. والجدير ذكره، أن مقاطعة الألزاس تضمّ ثلاثة مواقع أثرية مهمة صُنّفت ضمن لائحة التراث العالمي من منظمة اليونيسكو، وهي: الجزيرة الكبرى والكاتدرائية وفرنسا الصغرى. كاتدرائية سيدة ستراسبورغ من ساحة غوتنبرغ تتفرع شوارع عدة، عند كل زاوية منها أقيمت أماكن موقتة لبيع الزهور. ومعظم تلك الشوارع مرصوفة بأحجار مكعبة رمادية اللون ومخصصة للمشاة فقط. أحد تلك الشوارع يوصلنا إلى ساحة الكاتدرائية المكتظة بالسياح المحمّلين بآلات التصوير أو الهواتف النقالة، يلتقطون الصور، ويخلدون لحظات قدومهم إلى ستراسبورغ مع عائلاتهم وأصدقائهم، أمام هذا الصرح الشاهق الضخم. كانت الكاتدرائية مصدر إلهام لكبار الشعراء والأدباء والرسامين، أمثال فكتور هوغو وغوته وشيلند، وتعتبر من أجمل كنائس أوروبا إلى جانب نوتردام الباريسية وسان بول اللندنية وسكستين الفاتيكانية وسيفيليا الإسبانية. بنيت وفق الطراز القوطي قبل ألف عام، وتعرف باسم كاتدرائية سيدة ستراسبورغ، شاهقة العلو بطول 142 متراً، ولها أجنحة جانبية عدة تطلّ على الميدان. تولّى الأسقف أروين فون ستانباخ (1277 – 1318) عملية جمع التبرعات لإعادة ترميم وبناء كنيسة قديمة، كانت بنيت فوق تلة غير مرتفعة على يدي الأسقف وارن رفون هابسبورغ عام 1015 ميلادي، وتعرّضت للحريق والدمار لاحقاً. ثم تولى كبار المهندسين وضع التصاميم، وجرى استقدام الحجر الأحمر من جبال الفوج المجاورة. وأشرف الأسقف ستانباخ على عملية بناء المدخل الرئيسي الضخم والواجهة الغربية، واستمر العمل في الكنيسة بعد وفاته عام 1318، فتولى إيريش فون أنسنفن عام 1399 عملية بناء الأبراج وزخرفة الأقواس والنوافذ. وظلت الكاتدرائية طوال أربعة قرون فريدة في طرازها القوطي الرفيع. وعندما سيطرت الحركة الكالفنية البروتستانتية على مقاليد الحكم عام 1521، حاولت اقتلاع المذهب الكاثوليكي بالقوة، فحوّلتها إلى كنيسة بروتستانتية، إلا أن الفرنسيين وبعد احتلال ستراسبورغ عام 1681، أعادوا الكنيسة إلى حضن الكثلكة. عربة اسمها الحقد قصة عربة القطار رقم 2419D، هي عنوان مرحلة تاريخية قاسية من العداء والحقد المتبادل بين الألمان والفرنسيين. إنها وقائع حقيقية موثقة في كتب التاريخ، وإن كان معظم الذين صنعوا أحداثها وعانوا منها قد ذهبوا وبقيت الذكريات. لقد أجبر الألمان الفرنسيين، إثر هزيمتهم عام 1871 وأسر الإمبراطور نابليون الثالث، على توقيع صك الاستسلام الذي يتضمن اقتطاع مناطق فرنسية أهمها مناطق الإلزاس واللورين، كما يتضمن دفع فدية ضخمة لفك أسر الإمبراطور. في العام 1918، تبادل الطرفان الأدوار، هزم الألمان مع نهاية الحرب العالمية الأولى وانتصر الفرنسيون الذين أجبروا أعداءهم على توقيع وثيقة الاستسلام داخل عربة قطار رقم 2418D، كانت مقر قيادة المارشال فوش ومتوقّفة في حقل زراعي في منطقة Compiene. كان يوماً خريفياً، 11 تشرين الثاني (نوفمبر)، وثمن نهاية الحرب كان ثمانية ملايين ضحية من الطرفين. في العام 1940، هزم الألمان الفرنسيين ودخلوا باريس، وأصرّ رجال هتلر على هدم جدران المتحف الذي حفظت فيه العربة منذ عام 1927، وأخرجوها ليتم توقيع حكومة بيتان على وثيقة الاستسلام داخل القطار المشؤوم. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، وهزيمة الرايخ الثالث وموت هتلر، أجبر عدد من مارشلات ألمانيا النازية على توقيع وثيقة الاستسلام عام 1944، وكان ذلك أيضاً داخل عربة القطار رقم 2418D. سألت السيدة الستينية، موظّفة الاستقبال في الفندق، عما إذا كانت على علم بقصة العربة، حرّكت شفتيها علامة النفي. فتابعت السؤال: هل صحيح أنكم على وفاق مع الألمان؟ أجابت من دون استغراب: «أنا في الأصل مولودة في مقاطعة الألزاس من أب وأم فرنسيين، إلا أنني أحمل اسماً له جذور ألمانية. تزوجت رجلاً من ضواحي باريس، منذ حوالى الأربعين عاماً، لقد ظلّت علاقتي مع حماتي باردة من دون مودة لفترة طويلة. في الحقيقة، لقد أرضع أجدادنا في البلدين الحقد لأولادهم لمدة طويلة، إلى أن ظهر رجلان عظيمان بعد الحرب هما شارل ديغول وكونراد أديناور، وجرت مصافحة تاريخية بينهما أدت إلى دق القلوب، وتفتحت أبواب المحبة رويداً رويداً. الأمور احتاجت إلى زمن، الأجيال التي اكتوت بنيران الحقد ذهبت، ونشأت أجيال جديدة تربت على قبول الآخر وعدم الخوف منه والتسامح. وساهمت الثقافة والمؤسسات في الدولة والمجتمع في التركيز على مبدأ المصالح المتبادلة. عملية بناء الثقة بيننا لم تتوقف. ألمانيا وفرنسا اليوم ضمن الاتحاد الأوروبي، وهما الأكثر تفاهماً بين دول أوروبا». «بالاختصار»، قالت السيدة وقد تنبهت إلى وجود زبون أمام الاستعلامات، «لقد عانى الناس من نتائج حروب قرّرها الأقوياء، وبالمصافحة التاريخية بين ديغول وأيدناور تنعم الناس بنتائج سلام الشجعان».
مشاركة :