ناصر أبو عون nasser@alroya.net تقول العرب "فيه شناشن من أبيه"، وإن أردنا مطابقة المأثور على الواقع المأبور، انطبعت صورة الشيخ الشاعر والدبلوماسي النابه "هلال بن سالم بن حمود بن شامس السيابيّ" في أخيلة اليقظة الملازمة لـ"عين اليقين"، واستبانت في رؤى التأويلات المُصَدِّقة لـ"علم اليقين"؛ حتى إذا أقبلت عليه حوراء من وادي عبقر وراودته عن نفسه، أقبل ولم يُعرض ذمرًا غير هيّاب، فوطأ كل أغراضه، ونظم في سائر أنماطه غير مرتاب، وجمع قاموس العرب فأوعاه، وقبض على فنون البديع والبيان فأوكاه، واقتات من شجر الفكر، وتوكأ على منسأة الشعر، واعتصم بحبل القصيدة، واصطاد غزالات الصور بسهام الحكمة، وعرج على سلالم الخليل وأوزانه في سماوات الإبداع إلى سدرة المعنى، لينتهي به المطاف رائدا وفارسا في ميدان القصيد وربّا لـ"موسيقى الشعر الخليليّ"؛ فتحلّق حول منهجه ثلة من الشعراء المعاصرين، يقتدون بطريقته ويتنافسون فيما بينهم على حمل الراية واستكمال المسيرة إلى يوم يبعثون. ومن صنيع المقادير المأمولة بشخصيته الشاعريّة، وجبلته الإنسانيّة؛ أنْ أنبته أبوه حُبًّا، وسقى شجرته علمًا، وشذّب عوده أدبًا، في بيت عزّ وسؤدد، فنشأ طيّب السعوف، حصيف الرأي، يلمعيَّ العبقرية والفؤاد، حديد الرأي واللسان، يصدق عليه قول طرفة بن العبد "أنا الرجل الجعد الذي تعرفونه//خشاش كرأس الحيّة المتوقدِ". ولأنّ كلّ مَن يدبُّ على الأرض تسوقه يد القدرة المطلقة إلى غاياته المخبوءة في لوح القدر، فقد طوحت الأقدار المرسومة في عالم الذّر بالشاعر هلال السيابيّ؛ فأول ما وقع من رحم أمٍّ رؤوم طيّبة الجذور، فإذا ما تلقفه حِجر أبيه تحنّى بمعيّة إخوانه؛ فقضى طفولته يتقلب متأملا في حدائق الأفكار، بعدما رضع البلاغة لبنا سائغا لم تخالط لسانه نبوة، ولم تقطعه عن أصوله الفصيحة جفوة. حتى إذا شبّ الفتى السيابيّ عن الطوق هجر ملاعب الصّبا، وأكبّ رأسه بين مصاريع الكتب؛ فاستملك علم التأويل من "الحقيقة والمجاز في تاريخ الإباضية باليمن والحجاز"، واستوثج من بحر الشريعة الغراء، وعبّ أصولها حتى كرعت روحه من "معالم الإسلام في الأديان والأحكام"، واستوثق من فنون المحاججة، وعلا كعبه في محاورة المناطقة بعدما استبصر "العقود المفصلة في الأحكام المؤصلة". وشاء الله لشاعرنا هلال السيابيّ في مبتدأ صباه أن يستمكن من علوم العربية ويستجمع أصولها نحوا وصرفا ولغة صافية لم تخالطها عجمة، وقبض على جمر ناصية المعاني فلم يفلتها؛ بعد أن قيض الله له العلامة سماحة الشيخ أحمد بن حمد بن سليمان الخليلي؛ ففتح له المغاليق المستحكمة، وفك بين يديه أوكية القراب المستملحة من فنون البيان، وحاز على يديه جواهر الدرّ المنظوم والمنثور، واستظهر في حضرته علمي البديع والمعاني، وعض بالنواجز على أساليب العرب وأمسك بأزمة بلاغتهم؛ فاستضاءت ملكته بامتلاكه أزمة الفهم والحفظ معا. ومازالت يد الأقدار حانية فهيأت لفارس القصيد دروب العلم في مطلع يفوعته، وأماطت من طريق مسيرته كل عقبة كؤود، وسارت به بين أعمدة المجالس العلمية الزاهرة، وتنقلت به بين أروقة السَوَابِلِ العامرة، فاحتبى وتربّع وافترش الأرض بين جنباتها من طلعة الشمس حتى العشاء الأولى، يمتص رحيق أفكارها، ويستحلب العلوم من رجالها، ويطوف على أشراف شيوخها؛ فجلس إلى"أبو يحيى" الشيخ خلفان بن جميّل السيابي، وكان عالما غشمشما يركب رأسه لا يثنيه عما يريد ويهوى، وزميعا في الحق إذا همّ بأمر مضى فيه؛ ولأن طالب العلم ابن شيخه، ويقضي معه جُلّ يومه، فقد أكسبه كمشة من صفاته ومنها حِدّة العلماء، والاعتداد بالرأي، وقوة الشكيمة، وصلابة العريكة. فلمّا صحبته في كثير من المحافل، وأنصتُ إلى نظمه وبيانه، وطالعتُ مطولاته، ووقفت على الكثير من مطارحاته الشعرية، لم أجد فيها لحناً يعيب شعره، ولم يقع فكري على هنّة في نظمه، ولم يلتقط سمعي زلة في نحوه؛ والفضل في ذاك البناء الرصين مرجعه إلى معلمه "سيبويه الثاني" الشيخ حمدان بن خميس بن سالم اليوسفيّ صاحب "إسعاد الراوي بشرح لامية الشيراوي" فقد كان شاعرنا السيابيّ يرتاد حلقات درسه؛ فشاء الله له أن يجمع نحو العربية من بين شدقيه لفظا ومبنى. وأحسب الشاعر - ولا نزكي على الله أحدا – قد حوى في صدره علوم الأدب الثمانية: "النحو واللغة والتصريف والعروض والقوافي وصنعة الشعر وأخبار العرب وأنسابهم" فنطق بلسان عربيّ مبين، وكشف الأستار عن بيان شعريّ بليغ، واستوظف ألفاظه في سياقاتها المبتغاة وهجر المترادف منها بغير علة يستند إليها في بيان مقصده، وقرض قصيده على سائر الأغراض والمعاني، -وإن كان مكثرا في القوميّ والوطنيّ-، وتلك سجية متوارثة في نطفة قبيلته "آل المسيب بني تغلب بن وائل العدنانيّ"، فقد تقلبت الحميّة في أظهُرهم متناسلة من جيل إلى جيل، وصارت راية عزٍّ وفخار يتناوبها ذراريهم على مرّ الآماد، وثمرة يانعة في سدرة أنسابهم المونقة؛ فهم من أشراف العرب نسبا وصهرا، والحميّة في عروقهم جبلة وأصلا.
مشاركة :