شدنَّي قراءة مقالٍ بارع، كُتِب بقلمٍ فارع، لأخي وزميلي العزيز، فضيلة الشيخ الدكتور/ سلطان بن حَبَّاب الجعيد؛ وهو الخطيب المُفوَّه، والأستاذ بكلِّ علمٍ يُنَوِّه، وعنوان مقاله: «مهلًا أَيُّها الجيل الفريد» كلماتٌ في رثاء -الفقيد أبي عبدالله- الشَّيخ معيوف بن مطر الجعيد -رحمه الله-، وقد شهدتُ أنه لم يبالغ قطُّ، بل أصاب كبد الحقيقة، ونفذ إلى باطنها. وتتميمًا لما بدأ به مقالَه، وانتدابًا للوفاء بحقِّ الصُّحبة لمن حمل كنيةَ والدِهِ ونداءَه (أبا عبدالله)، أعني ابنه: أبا معاذ، سعادة الدكتور/ عبدالله بن معيوف بن مطر الجعيد -حفظه الله ورعاه-؛ فهذه فاتحة الخواطر: وترجَّل الفارسُ: ومات العمُّ الشَّهم الأبيُّ: «معيوف»؛ الرَّجُل الذي تنادى النَّاس بأخلاقه، وتسامع الرَّكب بشِيَمه وإكرامه، ولا أذيع سرًّا إن قلتُ: إنَّني وإن لقيتُ العمَّ «معيوف» مراراً، إِلَّا أَنَّ عدد لقاءاتي به لا يتجاوز أصابع اليد، غير أَنَّها كانت لقاءاتٌ ثريَّةٌ، ومُلهِمة مريَّة. إنك حين تجلس مع هذه القامة لَتَجدُ في جُعبته الكثير من الحكايات، سواءٌ عن نشأته وماضيه، أو كيف عركته الحياة وعركها؛ إذ نشأ في البادية تحوطه الصَّحراء من كل ناحية، وفي ذلك تحدِّيات تقهر الإنسان؛ لما يعانيه من شدِّة الحرِّ والظَّمأ، وهمٍّ بين حِلٍّ وتَرْحال، لا يعرفون حياة الدَّعة والرَّفاهية، ولا يدركون ما أمامهم من متاهاتٍ متوالية، ويأوون إلى خيامهم البسيطة، المصنوعة من الشَّعر والوَبَر، تُنصب وقت الإقامة، وتطوى وقت الرَّحيل بكُلْفة وسآمة، بينما عملهم وقُوام حياتهم رعي الدَّوابِّ والماشية، من الإبل والأغنام بأرجلٌ حافية!، ومع ما في هذه الحياة من الشَّظف والقسوة النَّابية، إِلَّا أَنَّهم تربَّوا فيها على تحمُّل المسؤوليَّة الكافية، والاعتماد على النَّفس بعزيمةٍ وافية. وقد ورث العمُّ «معيوف» صفات العربيِّ الأصيل، من الشَّهامة والمروءة، والكرم والنَّجدة، والعفو والسَّماحة، فهي متأصِّلة فيه جبليَّة ليست بمتكلَّفة، مع ما طبعه الله عليه من صبرٍ وأناة، وسعة صدرٍ وطول بالٍ حماه، فَحُقَّ لأبي عبدالله قول أبي تمَّام يوافيه: وَرُحْبَ صَدْرٍ لَوَ أَنَّ الأَرضَ واسِعَةٌ * كَوُسْعِهِ لَم يَضِقْ عَنْ أَهلِهَا بَلَدُ ورغم الحياة القاسية التي عاشها أبا عبدالله، والظُّروف الصَّعبة التي أحاطت به، إِلَّا أَنَّه كان يمتلك روحَ المَرحِ والدُّعابة، ولُطف المشاعر تملأ إهابه، وكأَنَّه كان يهرب إليها ليقتنص منها لحظات الفرح، ويستدر منها حياة السُّرور، وقد رافَقَتْه هذه البشاشة حتَّى أخريات عمره، فتلقاه مُرحِّبًا متهلِّلاً، كريمًا متودِّدًا، مُحبٍّا للاندماج والتَّفاعل مع الآخرين، يبادر بالتَّبسُّط في المزاح والضَّحك، ويألفك بالإيناس على سليقة تُدهِشك، فهو يُعبِّر عن إنسان أحبَّ الحياة؛ وعاش حُلوها ومُرَّها. والشيخ الجليل الرَّاحل «معيوف» -وهو على مشارف التِّسعين- مع كونه مُتشِّبعًا بعراقة الماضي إِلَّا أَنَّه كان يعيش روح الحاضر، وقد اتَّسمت علاقته مع أبناء العصر بالسُّهولة، فلا تعقيد ولا نُفرة، ولا استبعاد ولا جفوة، ويصدق فيه قول الأوَّل: «رفيع العِماد، قريبُ البيت من النادِ». وقد انعكس ذلك على تربيته لأبنائه، فولده البارُّ فضيلة الدكتور/ عبدالله (أبو معاذ) -وهو زميلي- كان يدعوني لحضور بعض مناسباتهم، ويصادف ذلك حضور أبيه، فكان يتعامل معه وكأنَّهما صديقان أو زميلان، وقد لفت هذا نظري، وأثار إعجابي وتعجُّبي، ففارق السنِّ بينهما كبير، ويكاد يكون الابن نصف عمر أبيه، إِلَّا أَنَّ هذه الفروق تتلاشى مع حضور التَّوقير والاحترام، بل قد يصل الكلام بينهما إلى حدِّ المِزاح والفُكاهة، والجدال الطيِّب بنباهة، وهذا من أثر التَّربية السَّديدة، التي أورثت مثل هذا الابن المبارك؛ فكان سهمًا وأَثَرًا يتبارك. لقد أغرم العمُّ «معيوف» بحياة البريَّة؛ فَعِشْقُها انطبع في قلبه؛ وما ذاك إِلَّا لنشأته الأولى التي عاشها، فهي مهد الصِّبا، ومدرَج الخُطا، وكأَنَّه يتنسَّم فيها رائحة الماضي، ويشتمُّ منها عبق الأيام الخوالي، فقد كان يتعاهد الذَّهاب بأولاده وأهله، ويدعو بعض أقاربه ومحبِّيه وأصدقائه في رحلاتٍ يرفِّه فيها عن رتابة المدنيَّة، ويسيرون فيها المسافات الطَّويلة (التي قد تتعدى 400 كلم)، يمكثون فيها الأيام واللَّيالي ذوات العدد، يستعيدون فيها صورة حياة البادية، التي يُلتمس فيها صفاء الذِّهن، وعبادة التأمُّل في الط…
مشاركة :