التاريخ والتراث كانا يُحفظان في بداية ظهور الإنسان عن طريق السماع والحفظ، ثم تلي ذلك النحت والرسومات والنقوش التاريخية من أجل حفظ التراث أو نقل حدث مهم أو كارثة طبيعية. بالإضافة إلى أسلوب القصص والروايات أو ما يُسمى الشعر الملحمي، التي كانت تتداولها الأجيال. ولعل الكتابة بأنواعها ظهرت في عصور متأخرة.ومن المشهور مقولة: الشعر ديوان العرب؛ لأنه كان يحفظ تراثهم وتاريخهم، والأحداث الجسام التي مرَّت عليهم، وكذلك يحفظ عاداتهم وتقاليدهم جيلًا بعد جيل، خصوصًا أن الكتابة في ذلك الوقت كانت نادرة وغير منتشرة بينهم. والعرب كانت أمة أمية في الغالب، والقليل منهم مَن كان يُحسن القراءة والكتابة، ولذلك كان الاعتماد على الحفظ هو المرجع الأول للتاريخ والتراث في تلك الحقبة.وفي هذا الشهر الحالي «أكتوبر»، هناك يوم يسمى (اليوم العالمي للتراث السمعي والبصري) وهو يوافق (٢٧) أكتوبر من كل سنة. وجاء موضوع هذه السنة (٢٠٢٢م): «نافذتك على العالم: تكريس التراث الوثائقي لتعزيز المجتمعات الشاملة، العادلة والسلمية».تجدر الإشارة إلى برنامج بعنوان (ذاكرة العالم)، وقد مرَّ عليه ثلاثون سنة منذ انطلاقه. والذي تمَّ إنشاؤه في عام (١٩٩٢م) من قبل اليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة)، والسبب وراء هذا البرنامج هو حفظ تراث العالم، والذي قد يتعرض للضياع؛ بسبب الحروب أو عدم الاستقرار الأمني أو النهب والسلب؛ بسبب التجارة غير المشروعة. بالإضافة إلى عوامل ومسببات أخرى طبيعية كالرطوبة أو الأمطار والفيضانات أو الزلازل والبراكين، والتي قد تتعرض لها الحجر والمخطوطات التراثية القديمة والمكتبات والمتاحف والأرشيفات الوطنية والأقراص والوثائق السمعية والبصرية وغيرها.إن حفظ التراث والتاريخ قد مر بمراحل منها الحفظ والتلقين، ثم الكتابة والنقش على الحجر، ثم تطور وأصبح هناك الورق والطباعة. وأما اليوم فقد أصبح الحفظ الرقمي، سواء الكتابي أو السمعي أو البصري، هو السائد، ولا نعلم ما قد يخبّئه المستقبل، فربما تظهر للأجيال القادمة طرق أخرى لتخزين المعلومات والتاريخ والعلوم والتراث بطرق وتقنيات حديثة لا نعلمها اليوم.وتكمن أهمية هذا الموضوع من وجهة نظر هيئة الأمم في حفظ هذه الوثائق أنها: «تروي المحفوظات السمعية والبصرية قصصًا عن معايش الناس وثقافاتهم. فهي تمثل تراثًا لا يُقدَّر بثمن، ومصدرًا قيِّمًا للمعرفة؛ لما لها من دور في إبراز التنوع الثقافي والاجتماعي واللغوي لمجتمعاتنا. والمحفوظات تساعدنا في النمو الإدراكي وتعميق الفهم بالعالم الذي نتشاركه جميعًا».والتاريخ يُخبرنا عن أحداث كثيرة وفظيعة ضاع فيها الكثير من الكتب والعلوم بسبب الحروب أو الكوارث الطبيعية. ومن أمثلة الأحداث التاريخية التي كانت مؤثرة وكارثية: غزو بغداد من قِبَل التتار والمغول، حيث ضاعت الآلاف من المخطوطات التراثية من مكتبة (بيت الحكمة) في مختلف العلوم والثقافة والفنون، حيث تم رمي الكثير منها في النهر. ومنها احتراق بعض المكتبات الشهيرة مثل: مكتبة الإسكندرية أو حريق المكتبة الإمبراطورية (١٩٢م). ومنها أيضًا كتب ومخطوطات بالآلاف أحرقت منذ سقوط غرناطة، وغيرها من الأحداث المؤسفة التي كان ضحيتها الكتب والعلوم والمعرفة.ومع التطور التقني والرقمي، صار من الممكن اليوم حفظ المعلومات وتخزينها بطرق أسهل وأسرع، ويمكن استخدام الحواسيب الضخمة والخدمات السحابية في الحفظ والمراجعة والاسترجاع السريع للمعلومات، وأن تبقى لعقود للأجيال القادمة من أجل حفظها من التلف والضياع.ولكن مع هذا كله، يظل عقل الإنسان وحبه للمعرفة والعلوم سببًا في عملية التطور العلمي والتقني بمختلف مجالاته، حتى مع ما قد ضاع أو أهمل أو أحرق من الكتب والوثائق عبر التاريخ.[email protected]
مشاركة :