نشرت صحيفة «مكة» السعودية (6 يناير/ كانون الثاني 2016) حديثًا للمحامي السعودي عمر الجهني، فصل فيه الحمولة القانونية لما يتداوله الناس على أجهزة الهواتف الذكية، سيما عبر برنامج التواصل الشهير «واتس آب». وقد انشغل الناس كثيرًا بالعقوبات التي ذكرها المحامي، وهي في المجمل غير واقعية ولا معقولة. تلك العقوبات ليست موضوع هذه المقالة، بل الأرضية التي يبنى عليها القانون: هل هي ردع الفاسدين عن العدوان، أم صون حرية الصالحين؟ أما الداعي لهذا الحديث، فهو قلقي من انزلاق - غير مقصود في الغالب - التنظيم إلى التضييق. دعنا إذن نبدأ من أول المسألة؛ أي سبق الحرية للقانون، وكونها أصلاً سابقًا عليه في القيمة والترتيب. وزبدة القول هنا إن المشرعين وواضعي القانون ينقسمون إلى صنفين بحسب الخلفية الذهنية التي يبنون عليها رؤيتهم للحياة والناس؛ الصنف الأول يرى البشر خيرين بفطرتهم وطبعهم الأولي، فالأغلبية الساحقة من الناس يريدون العيش بسلام، وثمة أقلية صغيرة انحرفت عن هذا الطريق بالفكر أو السلوك. أما الصنف الثاني، فيؤمن بأن البشر في طبعهم الأولي أميل للشر والعدوان، ولو تُركوا من دون رقيب أو رادع، لأحيوا أسطورة «حرب الجميع على الجميع» التي جادل دونها الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز. واجه الصنف الأول إشكالية تعارض المصالح بين أعضاء المجتمع، الذين يتمتعون جميعًا بالقدر نفسه من الحرية، فركز على تنظيم الطرق التي يسلكونها، كي يحصلوا على قدر متساوٍ من الحقوق. وهذا هو مفهوم القانون عند من يؤمن بخيرية البشر؛ أي أن غرض القانون هنا هو تنظيم المجال العام على نحو يوصل جميع الناس إلى حقوقهم، ويصون حرياتهم، ويمنع بغيَ بعضهم على بعض. واجه الصنف الثاني الإشكالية نفسها، فركز على الثغرات التي تسمح للأقلية الفاسدة بالعبث والعدوان على الناس، ولهذا وضع القانون على شكل جدار ضخم فيه بعض الأبواب؛ أي أن الغرض الأول للقانون هنا ليس تمكين عامة الناس من التوصل إلى حقوقهم، بل منع الفاسدين من الفساد. يتلخص خطاب الصنف الأول في العبارة التالية: من أراد الوصول إلى حقه، فالقانون هو أسهل الطرق، الجميع أحرار في إطار القانون. بينما يتلخص خطاب الصنف الثاني في العبارة التالية: «امشي جنب الحيط» كما يقول أشقاؤنا المصريون، فالقانون بالمرصاد لمن يجرؤ على تجاوز الطريق المرسوم. بعض الناس لا يرى فرقًا جوهريًا بين الخطاب الأول والثاني. أما فلاسفة القانون والسياسة، فوجدوا في الأول أرضية فلسفية للتنظيم السياسي العادل، كما وجدوا الثاني أرضية لمعظم الأنظمة السياسية المستبدة. بالعودة إلى قصة عقوبات «واتس آب» التي يتداولها الناس، يحسن القول إن الأكثرية الساحقة من المواطنين الذين يستعملون هذا النظام لا يخطر في بالهم، بل ولا يتخيلون مجرد تخيل أن يستعملوه ضد مصالح البلد أو لخرق قانونها أو تهديد أمنها. رغم أن هناك بالتأكيد بضع عشرات من الناس يفعلون هذا، فهل يصح وضع قانون يحجب حق الأكثرية الساحقة في التواصل، لا لسبب غير سد الطريق أمام أقلية صغيرة؛ أي معاقبة الأكثرية بجرم الأقلية؟ إن الجواب عن هذا السؤال يكمن في التوصيف السابق، فهل الغاية من القوانين التي نضعها هي تمكين العامة؛ أي الأكثرية الساحقة، من التمتع بحياتها وتحقيق حاجاتها في إطار القانون، أم غاية القوانين محصورة في محاصرة الأقلية الفاسدة، ولو أدى إلى محاصرة الأكثرية الصالحة معها؟ ولنا عودة إلى الموضوع من زاوية أخرى.
مشاركة :