رواية كاستيللو للكاتبة المالطية كلير أتسوباردي، التي صدرت طبعتها الأولى في مالطا عام 2018. وتعتمد الحبكة الروائية لرواية كاستيللو على جريمة قتل، ولكنها مع ذلك لا تنتمي للروايات البوليسية الرائجة، بل تدور الأحداث في مالطة على خلفيات سنوات الثمانينيات المليئة بالفساد والاضطرابات، وتتناول أحداث الرواية المشاعر النسوية المتضاربة كما تعيد طرح سؤال الأمومة من جديد. وقد حققت نجاحا ملفتا في مالطا منذ صدورها. تتناول الرواية الصادرة عن دار المرايا بترجمة عبد الرحيم يوسف سنوات الثمانينيات في مالطا التي تندرج تحت أزمنة التحول مما يعطي للعمل بعدا انسانيا أشمل يتجاوز الخصوصية التاريخية لدولة ما. وتنتمي الرواية إلى الأدب ما بعد الحداثي، ليس فقط من وجهة النظر النسوية التي تتبناها الكاتبة ولكن أيضا من حيث الأفكار التي تخرج عن الصورة النمطية للمرأة والأمومة والأدوار المنوطة بها في الحالات المختلفة. تدور أحداث الرواية حول أماندا، الشخصية الرئيسية في كاستيلو التي تذهب إلى أمها إيما بربارة التي تركتها منذ خمسة وعشرين عاما، وذلك بعد وفاة والدها، تذهب إليها بدعوى تسوية بعض الأمور ومعرفة مصير البيت، لكنها في الحقيقة تفتح باب الماضي المؤلم والمخيف والغامض. الباب الذي صدأ مع الصمت والغياب. وبعد قليل تجد آماندا نفسها أمام مجموعة من الألغاز: لغز اختفاء أمها، ولغز مقتل خالتها كاثي قبل سنوات في حادث تفجير إرهابي، خالتها كاتبة القصص البوليسية وخالقة شخصية دينيس كاستيللو المحقق الشرطي المحبوب من جماهير القراء في مالطا، هل ماتت كاثي بالصدفة؟ هل انتقمت لها أختها من قاتليها؟ وما دور العقيد القذافي الماثل كشبح في الصور والحياة السياسية المالطية طوال عقود؟. قُتلت كاثي المراوغة، توأم إيما بربارة، في هجوم بقنبلة في الاضطرابات السياسية في الثمانينيات وأكملت روايتها الأخيرة ونشرتها إيما. كانت وفاة كاثي مصادفة، ولكن من المحتمل أن تكون نتيجة لخوضها في منطقة حساسة سياسياً في رواياتها حول المحقق كاستيلو. صُدمت أماندا عندما علمت من والدتها أن إيما انتقمت للاغتيال كاثي بقتل رجلين. قتلت إيما كل من دينيس كاستيللو وتومي غريتش، وكلاهما التقى الرئيس الليبي الراحل العقيد معمر القذافي عندما جاء إلى مالطا بين 21 و 24 مايو 1976. حيث كان يعمل الأول مفتشا للشرطة والثاني في قصر سانت أنطون حيث تناول العقيد العشاء يومي السبت والأحد الثاني والعشرين والثالث والعشرين من مايو عام 1976. والتقط كل منهما صورة مع القذافي، احتفظ دينيس بالصورة التي أخذها على مكتبه، وعلقها تومي في أحد ممرات منزله. تقدم إن أتسوباردي تقدم في روايتها بحث في التاريخ الشخصي والعام، وشخصيات مأزومة وعالقة في ماضيها الشبحي وحاضرها الغائم، ولا تبخل علينا بفصول مباغتة من روايات كاثي البوليسية وبطلها المحقق كاستيللو في لعبة سردية متعددة الأبعاد. يذكر أن المترجم والشاعر عبد الرحيم يوسف اعتمد في ترجمته على نسخة مترجمة إلى الإنجليزية لم تُنشر بعد وقام بها د. ألبرت جاتّ مدير قسم اللغويات بجامعة مالطا وزوج الكاتبة. كما قام المترجم بالرجوع كثيرا إلى النسخة الأصلية المكتوبة بالمالطية وإلى الكاتبة نفسها التي يتوجه إليها بجزيل الشكر على تعاونها الدائم وكرمها الكبير أثناء عملية الترجمة. وأتسوباردي كاتبة مالطية من مواليد عام 1977 تكتب للأطفال وللكبار ونالت العديد من الجوائز. ترأس قسم اللغة المالطية في جامعة مالطا، جونيور كوليدج، ولأعوام عديدة مضت كانت عضوا نشطا في مؤسسة إنيزياميد وهي منظمة غير حكومية هدفها دعم الأدب في مالطا وخارجها. وخلال عملها في إنيزياميد، شاركت كلير في تنظيم مهرجانات وورش أدبية، غالبا بالتعاون مع مؤسسة LAF (الأدب عبر الحدود). تُرجمت أعمالها إلى لغات عديدة، ومنها مجموعتها القصصية الأخيرة Kulħadd ħalla isem warajh التي تُرجمت إلى الكرواتية والمجرية والسلوفينية والعربية؛ حيث صدرت بعنوان "الكل خلَّف اسما وراءه" عن دار صفصافة بالقاهرة عام 2019. كاستيللو هي روايتها الأولى والتي صدرت طبعتها الأولى عام 2018. مقتطف من الرواية كنت قد ذهبت إلى بيت أمي، بما بدا لي أشبه بخطة شديدة الوضوح؛ أن أسوي أمر كل المستندات الورقية المتعلقة بالبيت. لكني بدأت أشعر بالفضول تجاه هذه المرأة التي صارت الآن عجوزا وقبيحة. وكان لدي طن من الأسئلة لأطرحها عليها. بابا ـ الذي لم يكن فضوليا على الاطلاق، كان نمطيا مملا وكئيبا بعض الشيئ ـ لم يقل لي شيئا قط عن أمي وعائلتها. كان يسقط فقط في صمته العميق، تاركا إياي في وضع حرج. أخذت معي بعض الصور التي كانت لديّ. طرقت بابها، فتحت وسمحت لي بالدخول إلى سحابة من دخان السجائر. سألتها إن كانت وحدها... "أود أن أعرف بجون، كما تعرفين يا آماندا، لكنه في الخارج اليوم". عرضت عليها الصور؛ أمسكت بها قريبا من وجهها، "تلك أنت آماندا. أتذكر ذلك الفستان، وعربة الأطفال أيضا. اشترت كاثي لك كل هذه الأشياء يا حبيبتي". "حتى الدمية؟" "أي واحدة؟" "سالي". "من الممكن"". "كم كان عمري عندما التقطت هذه الصورة؟" "كنت في حوالي الخامسة على ما أظن". "على ما تظنين؟" "كنا قد ذهبنا إلى حديقة كينيدي". "وبابا؟" "لم يكن معنا. فقط كنت أنا وأنت والخالة كاثي وصديقتها". "آن". "إذا تتذكرين آن أيضا؟" "هناك أسماء مكتوبة على الظهر". "ماذا تريدين مني أن أخبرك يا حبيبتي؟" لا أعرف ماذا كنت أتوقع بالفعل. هل كنت أريد أن أكسح الفراغ من القاع، ربما أملأه بقصص بلا بداية ولا نهاية؟ أعتقد أني فقط أردت بالفعل أتفه التفاصيل؛ مثل ما كانت تحب أن تأكله... المعجنات، البيتزا، الخضار؟ أو ما كانت تحب أن تقرأه.. الروايات، القصص القصيرة، الشعر؟ الأفلام التي كانت تستمتع بها، الموسيقى التي كانت تستمع إليها. أردت أن أعرف لماذا لم تأت قط. حتى العطر الذي كانت تفضله، والسجائر التي كانت تدخنها، أي نوع من الهواتف الجوالة كانت لديها، الجرائد التي كانت تقرأها، إن كانت تحب السفر، أين ذهبت، أين تود أن تذهب. كان الأمر ليغدو أسهل لو اختلق بابا قصة لكل سؤال طرحته عليه وأنا طفلة على الأقل كنت سأعيش بما أخبرني به أيا كان ولم أكن لأصبح متلهفة هكذا لمعرفة المزيد. لكن أبي لم حكاء. ليس من السهل اختلاق القصص بالطريقة التي كانت تفعلها الخالة كاثي. أردت أن أعرف إن كانت إيما قد فكرت فيّ أصلا. إن كانت قد وقعت في الحب مع شخص آخر، إن كان لديها أي أبناء آخرين. "من أين ينبغي أن نبدأ؟ لمذا لا نبدأ بجديك؟ جانّا وفريدو. إلى أي حد تتذكرين جانّا؟ "لا، لماذا نبدأ بجديّ؟ فلنبدأ بنا. أنا وأنت، الخالة كاثي ورجلها دينيس". " دينيس؟ كاثي؟ ليس بعد". "هل نبدأ برحيلك؟ اليوم الذي تركتني خلفك في الممر، في ذلك الصمت. فلنبدأ من هناك". "إذا فلنعد بالأمر قليلا إلى الوراء، فلنبدأ من اللحظة التي دق فيها شرطيان على الباب". "شرطيان؟" "هل كنت لتفضلين أن أقول ضابطيّ شرطة؟". "أيا كان". "سألاني إن كنت إيما بربارة. "السيدة بربارة؟" قلت: "نعم". "السيدة إيما بربارة؟" "نعم". "أخت كاثي بينسا؟" "نعم". فلنبدأ من هناك يا آماندا. من كاثي، من كاثرين، كيتي، ك، بينسا".. "ظننت أننا سنبدأ بلحظة رحيلك؟". "رحلت بعد وقت قصير من قيام شرطيين بدق الباب الأمامي لبيتنا". كانت خرقاء ومترهلة، هذه المرأة. كانت تضغط الكلمات عند حوافها، تبقيها وتقضمها بأسنانها الصناعية كما لو كانت تلوك قطعة من اللحم المقدد. كانت إيما هذه ترتدي ملابس بالية ومغطاة بالشحوم. تطفيء سيجارة وتشعل الأخرى. تثرثر وتحرك أصابعها الصفراء الحزينة. زرية الثياب. شعر أبيض تخالطه خطوط من الأسود، ذقن مغطى بزغب أبيض بدا أنه يتراقص. سكبت الشراب ومسحته، تأرجحت وتمتمت. لم تستطع أن تلتزم بالموضوع، تبدأ شيئا، ثم تنتقل إلى شيئ آخر وتكمل موضوعا مختلفا تماما. يسيل لعابها داخل كوبها وتتلمظ بشفتيها الكلمات التي تقومها. هكذا كانت ماما. "لماذا لا نبدأ من تيتة؟" لذا نبدأ من تيتة. لكنها بعد ذلك تقفز إلى الخالة كاثي وبعد ذلك إلى روبرت، بابا. ثم ترتبك وتنهض عن مقعدها غاضبة، وهو ما يعني أنها متعبة. ذات مرة أدرت لها تسجيلا على جهاز الآيفون الخاص بي. كان تسجيلا لنا نحن الاثنتين نقرأ معا. الشريط الوحيد الذي احتفظت به على الاطلاق والذي قام ماريو، أحد أصدقاء ماتيوه، بتحويله إلى ملف "إم بي ثري" من أجلي فغرت فاها. "أكملي، فلنسمعه مرة أخرى". ومن ثم استمعنا إليه مرة بعد مرة بعد مرة. لم يكن شديد الطول 8 دقائق و42 ثانية. "كم كان عمري وقتها؟". "حوالي سبع سنوات على ما أظن". "على ما تظنين؟" "تقريبا... أنا متأكدة إلى حد كبير... لكن كما تعرفين، لقد مرة وقت طويل". "إذا لم يكن قبل وقت طويل من رحيلك". "قرب ذلك الوقت كما أعتقد". "وتلك أنت تتحدثين، أليس كذلك؟" "لا، لست أنا". "ليست أنت؟" "لا، لا يمكن أن تكون هذه أنا". "طوال هذه السنين اعتقدت أني أسمع صوتك. من تكون إذا؟". "هذه كاثي". "مستحيل!". "كانت تملك مسجلا. وكانت تستخدمه من أجل مقابلاتها الصحفية". "هل أنت واثقة أنها ليست أنت؟". "كاثي. إنها كاثي". بين زيارة وأخرى بدأت أتشكك إن كنت أريد فعلا أن أعرف المزيد عن النساء في الصور الموضوعة على منضدة القهوة بجوار الأريكة. بدأت أتشكك إن كنت أريد فعلا أن أعيد كتابة قصة طفولتي من نقطة الصفر. لقد قضيت كل عمري تقريبا أحلم بأم لطالما رأيتها تحدق في لا شيئ على وجه الخصوص، مختلقة قصصي الخاصة، مغيرة إياها لمجرد نزوة، مصدقة ما أردت أن أصدقه، بناء على ما تمكنت من جمعه من قصاصات، وأنا أحيا مع صوت بلا جسد موجود على الشريط الوحيد الذي كان بحوزتي.
مشاركة :