لطالما كانت الروايات مرسى الترحال للباحثين عن عوالم مختلفة، تنادي مستكشفيها وتجذبهم إليها بالوصف والتعبير ونسج خيوط الاكتراث بشكل ينساب حتى يشعر القارئ بإشباع حقيقي لما يعترض الشخصية من أحداث وما يتبعها من مسارات. رواية الكاتب خالد اليوسف "وديان الإبريزي"، جسدت حالة البعد والشوق، ووجدانية اللقاء والوصال كان مشهد لقاء العاشقين يتجسد في وجدانيتي كاتحاد طال انتظاره بين الشمس والبحر، أظلت اللقاء مشاعر الحب عوضًا عن ظلال النخيل ورفيفها، هنا حيث ينهال الحديث دون ما يمنعه من مخاوف وحواجز، وهو الناتج الطبيعي لتفاعلات الزمن وآثار السنوات الخمس التي شهدت ميلاد احتضان دافئ بالأحاديث وريان بالرضا، حيث يتجاوز الشعور حاجز الذات حتى يغمر المدن والأنحاء، فتحلو مدينة من أجل شخص يسكنها، تتوهج تفاصيلها بالبياض وتسفر عن أسرارها التي لا يراها سوى محب لها. ويطوف الكاتب في فترة بكور التواصل الاجتماعي آنذاك حيث كانت الرسائل البريدية تأخذ السبق في تفسير الآخر لنفسه ومنظوره وفلسفته الخاصة حول الحب والحرب، وينساق الحديث ليتفرع بين الاثنين بزاوية يتحد فيها المتغير الداخلي والخارجي، ما بين الشعر ولذاذة الوصف إلى حدود الفكر وخلاصة الوعي، يرتسم بكل هذه المتناقضات طريق الوصول بين قلبين مفعمين بالثقافة المتباعدة لكنها تحت مظلة الود والرقي، والشجاعة التي استمرت تلحّ باللقاء الأولي بينهما، حتى حدث معلنًا بداية امتزاج حياة اثنين من الرحالة في أفلاك الحياة، يحاولان النجاة من مسارها الرتيب بلحظات مسروقة قصيرة الزمن لكنها فياضة بالشعور، وضعت مسار الحب بينهما في إطار الأحلام التي تحاول السكنى في واقع ممانع. استهل الكاتب رحلة تعريفه بالشخصيات بحديث له تسلسل زمني في ذاكرة "حصة" حيث انهمكت في وصف الصور التي تذكرها حول ماضيها من مرض والدتها إلى حوقلة الراقي واضطراب صوته بالآيات التي يكررها بينما ينفث على والدتها المريضة، مرورًا بمواعيد الرقية التي استبدل بها والدها مواعيد المستشفى بعد اقتناعه بما يقوله الرقاة ومن زاورهم، سردت ما ترتب على ذلك من أحداث كان أحدها وفاة أختها التي لم تهنأ بشبابها نتيجة لمراتع كانت فيها لقمة سائغة لأطماع المس والسحر. بعد ذلك انهمكت رواية وديّان في حكاية سيرته ومسيرته، من نشأته في وسطٍ بسيط يدور حول رحى القنص ورعي الأغنام وأحاديث السمر، حيث رضي بكل هذا الوسط الهادئ حتى بلوغه الحلم، حيث نال منه قلق السعي إلى المكانة التي كانت تتمثل في الذهاب إلى المدينة والدراسة في مدارسها الحديثة، لم تفشل محاولاته كثيرًا حتى استطاع الخلوص من دائرة الراحة ليسافر إلى المدينة برفقة من يحملهم ذات الطموح والشغف. لم تمر الأيام طويلاً قبل أن يعود وديان ليصنع فارق العلم والحضارة وينعكس الإعجاب بين الجميع لما يتمتع به من فصاحة وحفظ ومعلومات يتباهى بها أمام أهله ومن جاؤوا وفق ما سمعوه عن وديان من تطور سريع وتعلم ظاهر، ترك ذلك الأرض خصبة مع معالم الإجهاد التي بدت على وجهه ليخاف المقربون عليه من العين، والحسد، ويسرعوا به وجلين إلى الراقي فور ظهور علامات الإجهاد على ملامحه وجسده، فكل ما يعرفونه أن لديهم نابغة وأن العين حق. مثلت هذه الرواية رحلة بين عوالم شخصياتها، تفردت بإمكانية التجول في عقول الآخرين ومراقبة تبلور الفكرة التي تترجمها تعابير اللسان، ولذلك لذة تشبه الاطلاع على جزء من علوم الغيب، وتشابه الوقوف على قمة السور فأرى آفاقاً أبعد مما يراه العالمون، ويا لبراعة الكاتب حينما كان يستشعر كيف أكتفي من القراءة حول شخصية ما، لينقل ناظريّ في الصفحة التالية إلى مسار يرتسم لشخصية أخرى وبطريقة تتفوق جذبًا وسردًا، وحين انتهت هذه الرحلة باجتماع العشيقين بعد طول تروٍّ دفع إليه حاجز الخوف، والذي كان جانبه الأول الخوف من الرفض وجانبه الآخر الخوف مما خلف الصمت والتبرير، لتنتهي فصول هذه الرحلة بسلام يحيل رسالة الكتاب إلى شجن يهاتف القلوب المجهدة بتودد بالغ اللطف. قاص وكاتب عبدالله الصليح *
مشاركة :