تتبدى الكثير من المخاوف في الغرب، وخاصة في أوروبا، قبل حلول الشتاء القادم؛ بشأن انعدام الأمن في مجال الطاقة، بسبب تداعيات حرب أوكرانيا. وأدت القيود الشديدة على تصدير النفط والغاز الروسي إلى البلدان التي كانت تعتمد في السابق على هذه الصادرات، إلى تدافعها لإيجاد مصادر بديلة، وخفض مستويات الطلب في الوقت نفسه؛ للحفاظ على الأسعار من الارتفاع. وبالرغم من هذه الجهود، فإن احتمالية حدوث حالات نقص شديد، أو انقطاع للتيار الكهربائي باتت تمثل تهديدا بشكل كبير. واعتبارًا من يوليو2021، ارتفعت أسعار الكهرباء في أوروبا بنسبة 50% تقريبًا، مع توقعات بازدياد الوضع سوءًا مع اقتراب برودة الطقس. وفي هذه الأثناء، برزت الخلافات السياسية بين القادة الغربيين، وتبادلوا الاتهامات حول العمل لتحقيق مآربهم الذاتية، بدلاً من تعزيز وحدة الجهود. وبعد إعلان «أوبك بلس»، خفض حصص إنتاج النفط في أكتوبر 2022، اتهم العديد من المحللين المنظمة بـ«القيام بهجوم سياسي» على الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن الخلافات التي ظهرت حتى الآن بين الدول الغربية ليست كبيرة بما يكفي للإشارة إلى انقطاع الدعم لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، فإنه من المتوقع أن يؤدي تدهور الوضع الاقتصادي خلال الشتاء المقبل إلى إثارة الشكوك حول مدى جدوى الحلول المطروحة من الدول الغربية. وأشارت «كريستينا لو»، في مجلة «فورين بوليسي»، إلى أن أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا الآن أعلى بعشرة أضعاف عن المعدلات المعتادة، مؤكدة أن هذا قد يؤدي إلى حدوث «تضخم، وإعاقة الصناعات، وترك الناس العاديين يعانون في الشتاء». بالإضافة إلى ذلك، فإنه من المتوقع أن يزداد الوضع سوءًا، مع استعداد «يانيز ليناركيتش»، مفوض إدارة الأزمات في الاتحاد الأوروبي، بالفعل لـ«سيناريوهين»؛ أحدهما: يعاني فيه العديد من الدول الأعضاء من انقطاع التيار الكهربائي، والآخر أكثر خطورة، حيث يؤثر انقطاع التيار الكهربائي على دول متعددة في وقت واحد. وفي إدراك لهذه المخاوف، وضعت بعض الدول الغربية خططا لتقليل استهلاك الطاقة والحد من ارتفاع الأسعار للمستهلكين خلال فصل الشتاء، على الرغم من تشكيك المحللين في جدوى تلك الخُطط حتى الآن. وكشفت فرنسا مؤخرًا عن خطط لخفض استهلاك الطاقة بنسبة 10% قبل فصل الشتاء، مع دفع موظفي الخدمة المدنية إلى العمل من المنزل في أيام معينة، وخفض منظمات الحرارة داخل مرافقها الداخلية، وتشجيع الأسر والشركات على بدء تشغيل التدفئة في فصل الشتاء في وقت متأخر فقط. ومع ذلك، ووفقا لـ«خافيير بلاس»، من وكالة «بلومبرج»، فإن الدول الأوروبية التي حصلت على «واردات كبيرة من الغاز الطبيعي المسال لتحل محل الشحنات الروسية»؛ لا تزال «بحاجة إلى تقليل استهلاك الغاز كثيرًا»، والحفاظ على الطاقة، باعتبارها «أمرًا بالغ الأهمية»، مستشهدا بألمانيا إلى تحتاج وحدها إلى خفض استخدامها للطاقة بنسبة «تصل إلى 20%. من ناحية أخرى، أشار المحللون إلى حقيقة الوضع غير المؤكد لاحتياطيات الغاز الطبيعي في أوروبا. وأوضحت «إيسي ليتو»، و«كيت أبنيت»، من وكالة «رويترز»، أن «التحدي الحقيقي الذي يواجه القارة سيبدأ في فبراير أو مارس عند الحاجة إلى إعادة التعبئة، بعد أن أدى الطلب في فصل الشتاء الماضي إلى استنزاف الإمدادات بنسبة 25-30%». وأضافت «لو»، أنه «في العادة، يمكن لأوروبا أن تعيد تعبئة مخزونها من الغاز خلال الصيف»؛ لكن هذا العام مع اقتراب الأشهر الباردة، وتشديد الخناق الروسي على تدفقات الغاز الطبيعي، «دخلت أوروبا في سباق مع الزمن لملء خزاناتها»، حيث دفعت «ثمنا باهظا»، وغير مستدام للقيام بذلك. ومستشهدا بكيفية تخزين الغاز الطبيعي في أوروبا «بنسبة 90% تقريبًا»؛ أوضح «فاتح بيرول»، من «وكالة الطاقة الدولية»، أن أوروبا «ستنجو من الشتاء القادم ببعض الأضرار»، فقط إذا لم تقع مفاجآت سياسية أو تقنية، تتسبب في المزيد من التأثير على أسواق الطاقة. غير أن الاعتقاد في تجنب مثل هذه الصدمات قد تكون في غير محلها. وحذرت شبكة الكهرباء الوطنية في المملكة المتحدة بالفعل من احتمال انقطاع التيار الكهربائي لمدة ساعات؛ بسبب «الاضطرابات والتقلبات غير المسبوقة في أسواق الطاقة». وعلى الصعيد السياسي، اتسمت النقاشات داخل أوروبا حول أفضل السبل لإدارة أزمة الطاقة في الحاضر والمستقبل، بـ«الخلاف الداخلي»، و«الاتهامات بالانتهازية»، و«الرفض لتبني مقترحات». وأوضحت «ماتينا جريدنيف»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، أنه «كما يحدث غالبًا أثناء الأزمات»، فإن البلدان الأوروبية «تتراجع خلف خطوط الصدع التقليدية»، المتمثلة في خلافات «الشمال مقابل الجنوب»، و«الأغنى مقابل الأفقر». وفي الآونة الأخيرة، سجلت صحيفة «واشنطن بوست»، كيف اتهم الدبلوماسيون الأوروبيون ألمانيا بـ«اتباع نهج العمل الفردي»، في هذه الأزمة من خلال الشروع في خطة بقيمة 200 مليار دولار لحماية مواطنيها وشركاتها من ارتفاع أسعار الطاقة، مع معارضة مقترحات «الاتحاد الأوروبي»، بشأن تحديد سقف للأسعار والاقتراض المشترك في نفس الوقت. وأعلن «ماتيوز موراويكي»، رئيس الوزراء البولندي، استياءه من موقف برلين واتهم «أغنى دولة» في أوروبا، «بمحاولة استغلال هذه الأزمة لكسب ميزة تنافسية لأعمالها في السوق الأوروبية». في حين وصف «فيكتور أوربان»، رئيس الوزراء المجري أيضًا موقفها بــ«الانتهازية، واستغلال الأزمة التي تمر بها الشعوب الأوروبية». وعلى الرغم من حث الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون»، القادة الأوروبيين على ألا يكونوا «أنانيين» أو «قوميين»، فإنه يسود شعور بين الألمان بأن أزمة الطاقة في أوروبا هي خطأ فرنسا، وفقًا لصحيفة «واشنطن بوست»، لاسيما فيما يتعلق بكيفية استيراد باريس للطاقة حاليًا من برلين جراء أعمال الصيانة المعطلة من جانب فرنسا لمحطات الكهرباء ومحطات الطاقة النووية الحالية، أو بناء محطات لتحل محلها. علاوة على ذلك، هناك مصدر آخر للخلاف السياسي، هو عرقلة فرنسا لبناء خط أنابيب للغاز الطبيعي يعبر جبال «بيرينيه» على حدود إسبانيا. وذكرت صحيفة «واشنطن بوست»، كيف أن ألمانيا وإسبانيا والبرتغال «ينظرون الآن إلى خط الأنابيب باعتباره رابطًا مهمًا بين محطات الغاز الطبيعي المسال في جنوب غرب أوروبا والعملاء بأوروبا الوسطى». وعليه، أوضحت «إليزابيتا كورناغو»، من «مركز الإصلاح الأوروبي»، أن الأمر يتعلق «أكثر بفشل تخطيطي إداري وتقني» من جانب باريس حيال أمن الطاقة وإدارة الأزمات، في حين يبدو كفشل «سياسي» من جانب برلين. وفيما يتعلق بالجهود الأوروبية المشتركة للتخفيف من ارتفاع الأسعار المتوقع، هناك نقص واضح في التعاون من قبل الدول الأعضاء. وعلى وجه الخصوص، أشارت وكالة «رويترز»، إلى معارضة «ألمانيا»، و«هولندا»، و«الدنمارك»، لاقتراح رئيسة المفوضية الأوروبية، «أورسولا فون دير لاين»، بوضع سقف مؤقت لأسعار الغاز الطبيعي في الاتحاد الأوروبي لتدارك ارتفاع التكاليف، بسبب «مخاوف بشأن أمن الإمدادات». وعلى الرغم من ذلك، تكافح الدول الغربية لتشكيل استجابة متماسكة فيما بينها لأزمة أسعار الطاقة والطلب الحالية، وخاصة بعد قرار «أوبك بلس» بخفض حصص إنتاجها من النفط لبقية العام، وهو خفض قدره 2 مليون برميل يوميًا في خطوة لها ما يبررها من خلال قلق الدول المنتجة بشأن انخفاض الطلب بسبب التباطؤ الاقتصادي العالمي. وفي ضوء هذه الديناميكيات، علق «جون ألترمان»، و«جوزيف ماجكوت» و«بن كاهيل»، من «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، على قرار خفض الإنتاج، بأن «أعضاء أوبك بلس يحاولون إعادة تأكيد سيطرتهم على السوق»، في الوقت الذي «سيُنظر إليه على أنه تحدٍ للولايات المتحدة». وبالفعل، وصفت «جانيت يلين»، وزيرة الخزانة الأمريكية، القرار بأنه «غير مفيد، وغير حكيم». واتهم «توماس واريك»، المسؤول السابق بالخارجية الأمريكية، «أوبك بلس»، بإضعاف الرئيس الأمريكي، «جو بايدن»، والديمقراطيين قبل الانتخابات الأمريكية المقبلة. وأدى غضب المراقبين الغربيين من التحالف النفطي إلى إعرابهم عن رغبتهم في تراجعه عن القرار. ويرى «ماثيو لين»، من مجلة «ذا سبيكتاتور»، أن قراره سوف «يأتي بنتائج عكسية»، حيث ستزيد الولايات المتحدة إنتاجها، بينما يعاني التحالف من «انخفاض طويل الأجل»، حيث يتضاءل اعتماد العالم على الوقود الأحفوري. ومع ذلك، فإن غضب المراقبين من قرار «أوبك بلس»، بخفض حصص إنتاجهم استجابة للصعوبات في العرض الحالي والمخاوف المستقبلية في «غير محله»، وخاصةً عندما يُنظر إلى أن العديد من الدول الغربية تتحمل المسؤولية أيضًا؛ لأنها زادت من صادرات الطاقة عبر الدول المصدرة للطاقة لتعويض الخسائر في إمدادات النفط والغاز الروسية. وبالفعل، سعت «ألمانيا»، إلى تعزيز تعاونها في مجال الطاقة مع «السعودية»، بعد توقيع إعلان شراكة مع «قطر»، في مايو، بينما كانت «إيطاليا»، تتفاوض أيضًا، بشأن أربعة مليارات متر مكعب إضافية من واردات الغاز الطبيعي من «الجزائر». وفي هذا الإطار، شكك المحللون أيضًا في دور الإدارة الأمريكية. وعلى الرغم من أن «واشنطن»، هي أكبر منتج لطاقة الوقود الأحفوري في العالم، فإنها لم تحدد برنامجًا واسع النطاق لمساعدة الدول الأوروبية في تعويض خسائرها من واردات الطاقة الروسية. وقدم موقع «بيزنس إنسايدر»، تقريرًا، بأن منتجي الغاز الطبيعي الأمريكيين، «يجنون أرباحًا ضخمة من خلال بيع شحناتهم إلى أوروبا، والتي تدفع أسعارًا أعلى بكثير». ووفقًا لـ«لوران سيغالن» من مدونة «ريديفايننج إنرجي»، تمت عمليات بيع بحوالي 275 مليون دولار لواردات طاقة كلفتها 60 مليون دولار فقط. علاوة على ذلك، يجب أيضًا ملاحظة أن الأسئلة حول القيادة العالمية للولايات المتحدة، بما في ذلك إدارتها للأزمات في حرب أوكرانيا، قد تزايدت. وعلى سبيل المثال، رد «ماكرون»، على مزاعم «بايدن»، بأن العالم قريب من «معركة» نووية كما كان الحال، إبان أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، بالقول إن القادة «يجب أن يتحدثوا بحكمة عند التعليق على مثل هذه الأمور». على العموم، قبل فترة الشتاء القادم، التي تتطلب تأمين إمدادات كافية من الطاقة؛ تهدد الانقسامات السياسية، والانقسامات المتصاعدة بين الدول الغربية، بتقويض وحدة الجهود التي استمرت منذ الحرب الروسية في أوكرانيا. وعلى الرغم من أن الشتاء لم يبدأ بعد، فإن احتمالات حدوث نقص حاد في الطاقة حتى في أغنى دول أوروبا، من المرجح أن تُثير تساؤلات حول مدى قدرة القوى الغربية على تأمين احتياطاتها من الطاقة. يضاف إلى ذلك، أن فشل أعضاء الاتحاد الأوروبي في وضع استراتيجية موحدة لأمن الطاقة، قد قوض مهمتها التعاونية، في حين أن القلق بشأن إدارة الولايات المتحدة لأزمة الأمن العالمي والوضع الاقتصادي يهدد مرة أخرى دورها القيادي في العالم.
مشاركة :