ساد تصور بعد انتهاء الحرب الباردة بتراجع الأهمية النسبية للاستراتيجيات العسكرية نظراً لارتفاع تكلفتها وأعبائها ومحدودية تأثيرها وإمكانية تحقيق العديد من الأهداف من خلال اتباع استراتيجيات أخرى، اقتصادية ودبلوماسية ونفسية، خاصة أن المحصلة النهائية للحرب الباردة لخصها ريتشارد نيكسون الرئيس الأمريكي الأسبق، في عبارة دقيقة وموجزة كانت عنواناً لكتابه، وهي: نصر بلا حرب. سرعان ما تغيرت الأمور بعد ذلك لعدة أسباب؛ أولها، وصول المحافظين الجدد إلى موقع السلطة في الولايات المتحدة بانتخاب جورج بوش الابن رئيساً للولايات المتحدة عام 2000، الذين يولون القوة العسكرية أهمية قصوى، ويرون أنها الأداة التي يتعين على الولايات المتحدة استخدامها للحفاظ على موقعها المتميز على قمة النظام الدولي، بوصفها القوة العظمى الوحيدة، ولردع أي محاولة للتفكير من جانب القوى الدولية الأخرى لتهديد هذه المكانة أو تهديد المصالح الاستراتيجية الأمريكية المنتشرة على امتداد العالم. وجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، لتعطي زخماً سريعاً لهذا التوجه، الذي قاد الولايات المتحدة إلى غمار حرب مفتوحة لم تنته عملياً، حتى الآن، رغم تغير التوجه العام للسياسة الخارجية للرئيس أوباما، وخروج المحافظين الجدد من أروقة الإدارة الأمريكية. ويرتبط بهذا فشل سياسة أوباما في تحقيق الطموحات الأمريكية في العديد من نقاط التماس الاستراتيجية مع القوى الدولية الكبرى الأخرى، الأمر الذي أدى إلى تجدد الدعوة إلى ضرورة تحديث وتطوير القوة العسكرية والاستراتيجية الأمريكية، بما يتوافق والمستجدات، وثانيها يتلخص في أن روسيا الاتحادية الوريث الطبيعي للاتحاد السوفييتي السابق، لم تعترف حتى في أشد لحظات ضعفها بالانتصار الأمريكي، وبانفراد الولايات المتحدة بموقع القوة العظمى الوحيدة، وهو ما يعكس التوجه العام للسياسة الخارجية الروسية، الذي تبلور فكرياً وعملياً بوصول فلاديمير بوتين إلى السلطة في الكرملين، ويتمثل في ضرورة إعادة بناء القوة الاستراتيجية الروسية الشاملة، بما يمكن روسيا من استعادة موقعها كإحدى القوى الدولية الكبرى في العالم، وثالثها يتمثل في استمرار صعود العديد من القوى الدولية الجديدة كالصين والهند والاتحاد الأوروبي اقتصادياً وسياسياً، الأمر الذي ترتب عليه تبلور مصالح استراتيجية لهذه القوى، يتعين على حكوماتها امتلاك عناصر القوة الاستراتيجية اللازمة لحمايتها. لهذه الأسباب استعادت القوة العسكرية أهميتها النسبية المتنامية من جديد في نطاق منظومة القوة الاستراتيجية للقوى الدولية الكبرى، ويؤكد هذا العديد من المؤشرات؛ منها استمرار تزايد الإنفاق العسكري للقوى الدولية الكبرى عدا الولايات المتحدة التي تخضع موازنتها العسكرية لخفض متدرج، وإن كان هذا لم يؤثر على كونها على رأس دول العالم من حيث الإنفاق العسكري، واستمرار عمليات التحديث والتطوير التقني لمنظومات السلاح كافة في الدول الكبرى، لزيادة كفاءتها القتالية ولتوظيفها استراتيجياً على مستوى الردع. وتقدم روسيا نموذجاً واضحاً في هذا الشأن، وأخيراً التطوير المستمر للاستراتيجيات العسكرية لهذه القوى بما يتلاءم ومتطلبات الأمن القومي لهذه القوى سواء لمواجهة التهديدات الأمنية أو لمنع حدوثها، يكفي أن نشير إلى أن عام 2015 شهد تطويراً للاستراتيجيات العسكرية الأمريكية والروسية والصينية، وإن العام 2016 سيشهد تطويراً لاستراتيجية فرنسا وبريطانيا والهند. نظرة على الاستراتيجيات العسكرية للقوى الكبرى يفصح تحليل الاستراتيجيات العسكرية للقوى الكبرى عن عدة أمور بالغة الأهمية أبرزها ما يلي: 1 - إنها، وإن كانت تتفق جميعها حول الردع، بوصفه هدفها الأسمى إلّا أنها تختلف اختلافاً واضحاً حول أساليب تحقيق الردع، والتي تتراوح ما بين امتلاك قدرات الردع الإيجابي، أي القدرات العسكرية التي تجبر الطرف المستهدف على الامتناع عن أي عمل غير مرغوب فيه، وصولاً إلى ما يمكن أن نطلق عليه الردع السلبي، والذي يتمثل في امتلاك القدرات التي تعيق استخدام طرف ما لقوته العسكرية، نظراً لأنها لن تستطيع تحقيق ما هو مستهدف من هذا الاستخدام، أو سترتفع تكلفة تحقيقها لهذا الهدف لمستوى لا يستطيع تحمله، والملاحظ أن الردع السلبي بمفهومه المتقدم يدخل في نطاق اهتمام الفكر الاستراتيجي للقوى الكبرى لاعتبارات مختلفة، فالفكر الاستراتيجي الأمريكي يسعى للوصول إلى وسائل لمواجهة ومنع الردع السلبي، باعتبار أن الولايات المتحدة هي أكثر القوى الكبرى المستهدفة لهذا المستوى من الردع، في حين أن القوى الدولية الكبرى الأخرى، تهتم به بوصفه إحدى أدواتها الرئيسية للردع خاصة تجاه الولايات المتحدة. 2 - إنها تشترك في التركيز على أن القوة العسكرية هي أحد عناصر القوة الاستراتيجية الشاملة، ومن ثم فتوظيفها لابد وأن يرتبط بالتوظيف المتكامل والشامل لمجمل عناصر هذه القوة، وهنا سنجد تركيزاً واضحاً على أولوية توفير مصادر التمويل اللازمة للبحث والتطوير في مجالات العلم والمعرفة، ذات الصلة المباشرة وغير المباشرة بالقوة العسكرية، وعلى توفير الإمكانيات والقدرات التقنية اللازمة لصناعة السلاح بما يتواءم واحتياجات القوات المسلحة المحتملة للقوى الكبرى. 3 - إعطاء الأولوية لأنماط جديدة من التهديدات الأمنية كالتهديدات الإلكترونية والكيماوية والبيولوجية والأوبئة والتهديدات الناتجة عن الإرهاب الدولي العابر للحدود والجيل الرابع من الحروب وغيرها، وهنا سنجد أن اهتمام هذه الاستراتيجيات بهذه الأنماط الجديدة من التهديدات تختلف أسبابه من دولة كبرى لأخرى، فبعض القوى الكبرى يهتم بنمط من هذه الأنماط، أو بها جميعاً، أمّا لمواجهتها أو محاولة توظيفها في سياق استراتيجيتها الأمنية تجاه أطراف معينة أو الاثنين معاً، فروسيا تهتم بالإرهاب والجيل الرابع من الحروب لكي تعد العدة لمواجهتها، باعتبارها تمثل أحد المصادر الرئيسية لتهديد أمنها القومي، في حين يتركز اهتمام الغرب على إمكانية توظيفها لخدمة أهدافه الاستراتيجية في مناطق العالم المختلفة. 4 - تشترك الاستراتيجيات العسكرية للقوى الدولية الكبرى في ارتباطها بالأوضاع الجيوبوليتكية في المناطق الحيوية بالنسبة لمصالحها الاستراتيجية، وخاصة الجوار الجغرافي المباشر وغير المباشر والمناطق التي تمثل مجالاً حيوياً لنشاطها وتأثيرها، وكذلك بعض المناطق التي نطلق عليها مناطق التماس بين هذه القوى، فكل استراتيجية من هذه الاستراتيجيات تقوم على تقدير معين لكل منطقة من هذه المناطق من حيث مصادر التهديد، وتطورات الأوضاع بها، ومن ثمّ تضع تصورات للسيناريوهات المحتملة وكيفية التعامل معها، وهنا سنلحظ إمكانية تنوع موضع كل منطقة، فيما بين هذه الاستراتيجيات ما بين الاتفاق والاختلاف في التقدير والرؤية والأهداف، وهو ما قد يقود إلى التنافس والصراع وإثارة النزاعات بين هذه القوى أو التنسيق والتحالف. 5 - تتجه الاستراتيجيات العسكرية للقوى الدولية الكبرى إلى إعطاء المزيد من الاهتمام لتطوير وتحديث القوة البحرية وزيادة قدراتها وإمكانياتها، مقارنةً بالمراحل التاريخية السابقة، وهو ما يشير إلى تحول في حركة التفاعلات الاستراتيجية بين القوى الكبرى، كما أنه يشير إلى التحول في الأهمية الاستراتيجية للمواقع ذات الصلة بحركة الملاحة البحرية الدولية، كمضيق باب المندب وهرمز والدردنيل والبوسفور وقناة السويس وغيرها، ويرتبط بهذا اهتمام هذه الاستراتيجيات بمواجهة المخاطر البحرية كمكافحة القرصنة البحرية، وأي شكل من أشكال إعاقة حركة الملاحة الدولية، إضافة إلى مواجهة أعمال التهريب المختلفة عبر المياه الإقليمية لهذه الدول. 6 - تجمع الاستراتيجيات العسكرية للقوى الكبرى بين أساليب الردع التقليدية من خلال الحرص على تطوير قدراتها من الأسلحة التقليدية، وأساليب الردع غير التقليدية المتمثلة في تطوير أسلحتها النووية، فلم يعد الردع يتحقق كما كان الأمر من قبل بالاعتماد على الأسلحة غير التقليدية، كما بدأت تزداد الأهمية النسبية لأنماط معينة من الأسلحة كالطائرات من دون طيار وأنظمة التحكم والاتصال الذكية وأنظمة الحماية الإلكترونية، والتي صارت تحتل موضعاً مهماً في سياق هذه الاستراتيجيات. 7 - تسعى كل استراتيجية من هذه الاستراتيجيات إلى توظيف ما تتمتع به كل دولة من هذه الدول من مزايا نسبية وتنافسية سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو تقنية أو ثقافية في مواجهة الأطراف المستهدفة وإجهاض تفريغ مزايا الخصم من هذه المزايا من قدرتها على التأثير، الأمر الذي قد ينشأ عنه مصادر جديدة للنزاعات. ويمكن القول إن تحليل الاستراتيجيات العسكرية للقوى الكبرى يفصح بوضوح عن الصراع الدائر بين العقول من أجل تطوير القدرات الذاتية لكل من هذه القوى، بما يؤدي لزيادة القدرة على الردع وإجهاض عناصر القوة لدى القوى الأخرى، أو إعاقة استخدامها بما يقلل من مصادر التهديد أو يضعها في نطاق السيطرة، كما يبين ما بدأت توليه هذه الاستراتيجيات من اهتمام بالسيطرة على العقول، وكسب معركة الأفكار في الصراعات القائمة والمحتملة، إضافة إلى اهتمامها ببعض الجوانب الإنسانية كأعمال الإغاثة ومواجهة الكوارث الطبيعية والبشرية. وبقي أن نشير إلى أنه، ونظراً للتداخل القائم على المستوى العملي بين هذه الاستراتيجيات، فإمكانية وقوع النزاعات أو تصاعدها بين هذه القوى في مناطق مصالحها الاستراتيجية، أو المناطق التي تتماس فيها هذه المصالح واردة، لكن الخبرة المعاصرة تشير إلى وصول القيادة العسكرية في هذه الدول دائماً إلى تفاهمات تحول دون الوصول إلى مرحلة الصدام المباشر. أستاذ العلوم السياسية جامعة حلوان
مشاركة :