السعي على الرزق سنة من سنن الله تعالى في الخلق، الكل يسعى على رزقه، الإنسان يسعى بقدميه، وعلى الدواب، والعجلات ويركب الطائرات والسفن المائية مصداقا لقول الله تعالى: (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) (الجمعة 10). والطير يسعى على رزقه بالطيران بجناحيه، ويمشي على رجليه فيغدوا خماصا ويعود بطانا، وقد ملأ حوصلته فيحضر الرزق الوفير لنفسه ولفراخه. والزواحف تزحف وتمشي لتحصل على رزقها، والبرمائيات تغوص في الماء وتقفز على اليابسة بحثا عن رزقها. والسمك يسبح ويغوص بحثا عن رزقه. وكذلك الهائمات النباتية والحيوانية تسعى على رزقها، والبهائم والسباع تسعى على رزقها. فماذا يفعل النبات للحصول على رزقه وقد شدته جذوره ومعاليقه ومحاليقه، فالشجرة الواحدة والنباتات الحولية تنتج ملايين الثمار والحبوب والبذور التي إن بقيت في مكانها بعد سقوطها على الأرض هددت أمها وأخواتها وجيرانها ونفسها بالهلاك جوعا لنفاد الغذاء وضيق المكان وحجب الضوء اللازم لإنتاج الغذاء بعملية البناء الضوئي. ماذا يفعل النبات في هذا المكان الضيق والمحدود ومن حوله أرض الله واسعة؟ ولكن الخالق سبحانه وتعالى اللطيف الخبير (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طه 50)، الذي تكلف برزق جميع خلقه لم ينس النبات فزوده بآليات ووسائل انتثار وانتشار للسعي على الرزق في أرض الله الواسعة، زود النبات برحمته بآليات معجزة فتسلق الجبال ودار في الهواء، وسبح في الماء، وركب الإنسان والحيوان، وهبط في الوديان، وقطع الفيافي والمحيطات والبلدان، وانتشر في الهضاب والسهول والحقول والصحاري والعيون المائية الباردة والدافئة، فاستعمر الأرض وعمرها؛ كل ذلك بآليات انتثار معجزة ووسائل مبدعة ومتقنة حملت الجراثيم والبذور والحبوب والثمار والأوراق والسيقان والجذور إلى كل مكان معمور وغير معمور في الأرض. فبذور بعض النباتات دقيقة كالدقيق خفيفة الوزن صغيرة الحجم تحملها الرياح إلى أماكن بعيدة جدا كما هو الحال في نبات الأراشد وحبوب اللقاح. ولثمار بعض النباتات أجنحة تحمل تلك الثمار في اتزان عجيب إلى أماكن بعيدة، فعندما يحرك الهواء أغصان تلك النباتات المحملة بثمارها الجافة المجنحة الخفيفة المتزنة فإنها تطير في الهواء بطريقة حلزونية تُوربينية دوامية معجزة ومقدرة فتصل تلك الثمار إلى مسافات بعيدة متخطية الجبال والأنهار ومثالها نبات أبو المكارم، وأما نبات الجعضيد فقد تحول كأس الأزهار والثمار إلى شعيرات مظلية تحمل الثمار إلى آلاف الكيلومترات فتملأ المكان في خفة مبدعة وعلمية ومعجزة وجمال يفوق لعب الأطفال المائية الغشائية الحديثة (الفقاعات). ومع كل هذا الإبداع والإتقان في الخلق يدعي الداروينيون والعَلمانيون أن النبات غير العاقل الذي لا يمتلك مختبرات علمية ولا مصانع ولا أدوات علمية ولا باحثين علماء قد طور نفسه بالمصادفة والعشوائية والمحاولة والخطأ والانتخاب الطبيعي حتى صنع هذه النظم الهندسية الفيزيائية الحيوية البديعة في انتثار البذور والثمار وانتشارها ونسي هؤلاء ملايين المحاولات التي قام بها الإنسان حتى استطاع أن يصنع الطائرات، فكيف لهذا النبات غير العاقل أن يقدر وزن الثمار وطول الشعيرات ومراكز الثقل والاتزان لنرى هذا الإعجاز في الخلق؟ الرد العلمي هو ما قاله نبي الله موسى عليه السلام عندما حاور فرعون: (قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى) (طه 49)، قال سيدنا موسى: (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طه 50). (خَلقه): أي صورته اللائقة بخصائصه كما ورد في كلمات القرآن تفسير وبيان، حسنين مخلوف رحمه الله. (ثم هدى): أي أرشده لما يصلح له ويصلح معيشته، ولا رد أبلغ من هذا الرد الموجز والمعجز. ولنبات الخشاش ثمرة كبيرة محمولة على حامل طويل مرن متلاعب بالهواء وللثمرة في أعلاها ثقوب، فإذا حرك الهواء الثمار تمايلت لطول عنقها وانتثرت بذورها عن اليمين والشمال وفي الشرق والغرب وكل مكان من حولها (معجزات حيوية علمية ميسرة، نظمي خليل أبو العطا موسى). فمن أعطى هذا النبات في الصحراء القاحلة المنقطعة هذا التركيب والعلم الدقيق المتخصص لتصنع هذا التركيب المعجز والعجيب لاجتياز الفيافي والقفار وعبور البحار والأنهار؟ وهكذا وسعت رحمة الله تعالى هذه النباتات فطارت ثمارها كما يطير الطير في الهواء بجناحيه بحثا عن الرزق، والمكان المناسب في أرض الله الواسعة التي قدر فيها أقواتها وبارك فيها. بعض النباتات تركب الحيوان والإنسان وتتعلق بهما لتصل إلى مسافات بعيدة، فنبات الشبيط زوده الله تعالى بخطاطيف تتعلق بفراء الحيوان وشعره وصوفه ووبره وريشه، وتتعلق بملابس الإنسان فتنتقل إلى كل مكان يصل إليه الحيوان والإنسان، كما أنها تتعلق بأجولة التعبئة للمحاصيل لتصل إلى بلاد بعيدة عبر الشحن المائي والبري والجوي. ويقوم الإنسان في عمليات التصدير والاستيراد، والتهادي والبيع والشراء، بنقل النباتات والحبوب والبذور والثمار وتوزيعها على البلاد القريبة والبعيدة، وينقل الإنسان والحيوان والطير البذور التي يأكلها ولا تتأثر بالعصارة الهاضمة بما وهبها الله تعالى من أغلفة حامية لها من العصارة الهاضمة، وتقوم الأبقار والخيول والغزلان بنفس الآلية مع العديد من النباتات البرية، وهناك الآليات الذاتية لتفتح الثمار وانتشار البذور والجراثيم وانتشارها كما هو الحال في الحوافظ الجرثومية للطور الجرثومي في الماركانتيا والفيوناريا والسراخس مثل كزبرة البئر حيث تتفتح الحافظة بآلية معجزة تقذف بالجراثيم بعيدا عن النبات الأم كما تلقى الكرة بالمضرب في لعبة التنس، كل ذلك وغيره الكثير يدلل على أن الله تعالى خلق هذه النباتات ورحمها ورزقها ووهبها كل هذه الآليات في الانتثار والانتشار التي تجعلها تتحصل عل رزقها المقدر كما قال تعالى: (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام 59). فالله تعالى لم يخلق هذه المخلوقات عبثا ولم يتركها هملا كما يدعي الملحدون والداروينيون والعَلمانيون، الله تعالى خلق كل مخلوق بغاية مقدرة ورعاه برعايته وتكفل برزقه سبحانه وتعالى القائل: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (هود 6). فكل بذرة تدب على الأرض، وكل ثمرة تدب على الأرض، وكل جرثومة تدب على الأرض، وكل حبة لقاح تدب على الأرض في عبودية تسخير معجزة. (انظر كتابنا عبودية النبات لرب الكائنات ص48).
مشاركة :