يقف المتابع للشأن الأمريكي على عتبة مهمة في مستقبل النظام السياسي للولايات المتحدة حينما يحل موعد الانتخابات النصفية في الثامن من هذا الشهر، فهذه الانتخابات بالذات لن تكون دورتها اعتيادية، ولن تفهم على أنها مجرد استفتاء حول شعبية الرئيس أو طبيعة العملية التشريعية في النصف الثاني من الفترة الرئاسية، كما كانت تفسر خلال القرن ونصف الفائتة؛ إذ أصبحنا نلمح اليوم احتمالية إحداث شرخ في أيديولوجيا الأحزاب من جهة، ومن جهة ثانية إمكانية تصاعد صراع السلطة بين الجهازين التشريعي والتنفيذي في الولايات المتحدة الذي من شأنه أن يؤثر على السياسة الخارجية الأمريكية، وبنظرة حسابية محضة يمكن القول: إن اتجاه الانتخابات سيصب أكثر في صالح الحزب الجمهوري؛ إذ يحتاج إلى مقعد واحد فقط لاستعادة الأغلبية في مجلس الشيوخ الذي سيتجدد ثلثه البالغ 35 مقعدا، فيما يحتاج الجمهوريون بين 10 إلى 20 مقعدا في مجلس النواب الذي سيطاله التجديد كاملا، ما سيشعل الصراع بين الجهازين التشريعي والتنفيذي في العامين المقبلين.ومن المعلوم أن الولايات المتحدة وعلى مر تاريخها كانت تعتمد في رسم سياساتها على طريقة التسويات أو الحلول الوسطى والمساومات بين الجماعات المختلفة المكونة لنسيج المجتمع الأمريكي، الأمر الذي انعكس على تشكيل النظام الحزبي في الولايات المتحدة، حيث فشلت الأحزاب ذات الأيديولوجيات المتطرفة سواء إلى اليسار أم إلى اليمين في تعزيز موقعها على الساحة السياسية الأمريكية، لكن اشتداد الاستقطاب الحزبي والأيديولوجي وتصاعده أخيرا، جعل الأحزاب التقليدية، وخاصة الحزب الديمقراطي، تذهب إلى الأطراف مع إدخال اتجاهات أيديولوجية جديدة مناهضة للاتجاهات التي كانت سائدة، فظهر تيار اليسار الجديد الذي يركز على أهداف اجتماعية جديدة يطلق عليها «القيم ما بعد المادية» لتشمل هذه القيم المساواة الاجتماعية، وحماية البيئة، ومناهضة الطاقة النووية، والمساواة الجنسية، وحقوق الإنسان، وأصبح المنتمون لهذا الاتجاه أكثر إصرارا على المشاركة السياسية، وقد تجلت مشاركتهم السياسية بالفعل في الإدارة الراهنة.أما الاتجاه المضاد، فهو تيار اليمين الجديد الذي يحاول إعادة التأكيد على أهمية القيم التقليدية اليهودية - المسيحية في المجتمع الأمريكي في وجه التحديات المتزايدة لها من اليسار الجديد؛ فيرى اليمينيون الجدد أن هدفهم هو تخليص المواطن الأمريكي من طغيان المجتمع القائم على مبدأ الجماعية الذي ينادي بسيطرة الدولة على جميع الأنشطة الاقتصادية، بالإضافة إلى إيقاف تيار الانحلال الأخلاقي وتحديد ما هو ضروري لوضع الولايات المتحدة مرة أخرى على «الطريق الإلهي»، وهذا الاتجاه الذي يقوده حاليا الرئيس السابق دونالد ترمب ويجد ممالأة من شخصيات جديدة تنتمي هيكليا إلى الحزب الجمهوري، وليس هو الاتجاه التقليدي للحزب، وهنا مكمن الشرخ الذي قد يحدث في أيديولوجيا الأحزاب؛ فالاتجاه الذي يقوده ترمب يواجهه عداء من جمهوريين آخرين أبرزهم نائبه مايك بنس، وحاكم فلوريدا رون ديسانتيس، وليز تشيني ابنه سيئ السمعة ديك تشيني، ولكل من هذين الفريقين الجمهوريين مرشحون يدفعون إلى نجاحهم في هذه الانتخابات، ويحملون معهم رؤيتهم الحزبية المختلفة عن الولايات المتحدة، مما قد يلقي بظلاله أيضا على برنامج الحزب وحظوظه في الانتخابات الرئاسية في 2024.هذه الصورة يمكن اعتبارها صورة مصغرة للصراع الأكبر بين الجهازين التشريعي والتنفيذي، إذ إن كل ما في الأفق السياسي الأمريكي يشير إلى غياب مسار التعاون بين الجهازين مع اشتداد الاستقطاب الحزبي وسيطرة الاتجاهات الجديدة على قياداتها، فالرئيس بايدن قدم حتى الآن نموذجا متضعضعا للبيت الأبيض في أثناء سيطرة حزبه على الجهاز التشريعي، نسبة إلى نموذج المواجهة الصلبة الذي كان قد عمل به الرئيس السابق ترمب، ما يجعلنا نفترض أن كسب الجمهوريين لأغلبية الكونجرس سيجعلهم أمام تحد يتمثل في الانضباط الحزبي، الذي يعتمد على قوة تنظيم الحزب، بينما قد يصفد الحزب نفسه بارتهانه إلى المعارضة العميقة القائمة على الانتقام والثأر من الديمقراطيين وحسب، وهذا ما سيجسد صراع السلطة بين الكونجرس والبيت الأبيض.وبناء على ما تقدم يمكن القول: إن هذه الانتخابات ستبوح بأن استدخال الاتجاهات الأيديولوجية الجديدة وتبنيها في الأدبيات الحزبية، إلى جانب اقتراب صراع السلطة بين الجهازين التشريعي والتنفيذي من حالة الاحتدام، هي ما يمكن اعتبارها المعضلة التي تقع في قلب النظام السياسي الأمريكي؛ بالنظر إلى إسهامها مباشرة في إعاقة الحكم المستقر والفعال بعدما صار كل جهاز يسعى جاهدا إلى إضعاف الجهاز الآخر على حساب صلاح السياسات الخارجية والعسكرية والاقتصادية، بل وحتى السياسات الاجتماعية التي قد لا تعنينا كثيرا الآن، ولكنها ستقطع البحار إلينا بالتأكيد في قابل الأيام.[email protected]
مشاركة :