في فجر يوم غائم بعد ليلة مؤرقة، لم أجد ما يسليني إلا قصة «آرابي» أو عربي (1914) لجيمس جويس، أحد عباقرة كتاب القرن العشرين الإيرلندي. وعلى ضوء خافت في حجرة شبه مظلمة انتقلت من قلب الشرق إلى قلب إيرلندا لإحياء لحظات مع الطفل الإيرلندي المتكلم في القصة وبطلها الأساسي، الذي كسرت حقائق الحياة قلبه لأول مرة، فانتقل من عالم البراءة الافتراضي الجميل، إلى العالم الحقيقي الذي نحيا فيه والمليء بالأسى والاحتيال والأنانية والمصلحة. والقصة على بساطتها من أروع ما كتب، ففيها صبي صغير يقع في الحب البريء لأول مرة ويهيم إعجاباً بأخت صديقته التي لا تأبه له إطلاقا. وفي اليوم الذي انتظره الصبي بلهفة، تحدثت إليه الفتاة لأول مرة لتخبره أن هناك بازاراَ يبيع فيه تجار عرب بضائع شرقية جميلة وغريبة، وتطلب منه أن يحضر لها هدية من هناك إذا ذهب. والولد الصغير فقير لا يملك مالا ويظهر أنه يتيم أيضاَ فهو يعيش مع عمه وعمته، ولكن كيف له أن يضيع فرصة إرضاء الفتاة التي يغرم بها؟ حصل الصبي على مال من عمه بعد مصاعب كثيرة، ولم يصل لموقع البازار إلا بعدما بلغ به التعب منتهاه، ومضى قسم كبير من الليل، وحينما دفع البنسات القليلة التي يملكها للدخول، وأحكم قبضته على الباقي من القروش في جيبه ليشتري بها الهدية الموعودة، وجد أن البازار أوشك على الانتهاء فقد لملم الباعة بضائعهم وانسدلت الستائر، ووجد بدهشة أن البائعين فيه ليسوا من العرب وإنما من الإنجليز، والذين هم طبعا لطفل إيرلندي يمثلون الخطر، وذلك للتاريخ الدموي بين الشعبين وإحساس الإيرلنديين المستمر إلى يومنا هذا بالظلم ومحو الهوية القومية. لاحظ بطلنا الصغير أن كل البضائع غالية الثمن لا يمكن له اقتناؤها. أي أن كل ما حلم برؤيته وتحقيقه اتضح أنه وهم، زادت وطأته بسماعه، طوال فترة تجواله بين البضائع والبائعين، لصوت القروش المعدنية ترن لتذكره لفقره وقلة حيلته. تنتهي القصة بنا بمشهد خروج الصبي من البازار حزينا، ثم يتغير صوت الراوي من صوت الطفل البريء إلى صوت الرجل الناضج الذي يسترجع هذه القصة بعد تقدمه بالعمر مشفقاً على حاله كطفل محطم كطير جريح، فقد علمه الموقف المخزي أن الفتاة لم تعبأ به إلا لتحصل على هدية، وهو الذي استمات ليحقق لها رغبتها، فلم يحصل إلا على الندم والمرارة. نغلق الكتاب فنرى ثيمة القصة واضحة وهي أن الكثيرين من الناس لا يعبأون بك إلا لو حصلوا منك على فائدة، وأن الحب النقي وهم غير موجود إلا في مخيلة الأبرياء ممن لم تدهسهم الحياة بحقائقها المخيفة. وجمال هذه القصه الواقعية يكمن في لحظة الاكتشاف المفاجئة الأخيره هذه”Epiphany moment” وهي لحظة إزاحة الستار من فوق أعيننا لنرى الحقيقة التي كانت ماثلة أمامنا طوال الوقت عن أشخاص في حياتنا، حقيقة ربما نكون لم نرها أو حتى رأيناها ثم أنكرناها أو أغلقنا أعيننا أمامها لارتباطنا النفسي أو العاطفي بالآخرين الذين نتأمل فيهم الكثير. إنها لحظة لابد لكل إنسان يعيش في كوكب الأرض مع فصيلة البشر أن يجربها سواء مع قريب أم صديق أم شريك حياة. . حينما وصف شكسبير الحياة بالمسرح الكبير فقد كان صادقا، فهي مليئة بالممثلين، إنها كرنفال يمشي فيه البشر بأقنعة ملونة، ولكل إنسان قناع، ولكل قناع وقت سقوط، ولكل سقوط دوي هائل لا ننساه. altawati@gmail.com
مشاركة :