نشر جيمس جويس (1882- 1948) روايته «عوليس»، عام 1922، ونشر قبلها «صورة لفنان وهو شاب»، و «أهالي دبلن». تدور أحداث «عوليس» في يوم واحد، يعيش فيه أبطال الرواية الثلاثة، «بلوم» وزوجته «مولي»، والشاب ستيفن داديلوس، عالمَ ما بين الحربين العالميتين في مدينة دبلن. الرواية ترجمها كاملة المصري طه محمود طه في ثمانينات القرن العشرين، ولكن للأسف نفدت الترجمة العربية منذ زمن، ولم يسع أحد لإصدار طبعة جديدة منها، بعد وفاة المترجم وتوقف دار النشر التي أصدرتها للمرة الأولى عن العمل، ما أدى إلى حرمان الاجيال العربية الجديدة من التمتع بهذا النص اللغز. ماذا تحكي الرواية؟ ستيفن دايدلوس، يعود من فرنسا بعد أن ماتت والدته، وهو يشعر بالحزن لفراقها وبالذنب لأنه لم يزرها خلال مرضها. أما صديقه «بوك موليغن»، وهو طالب طب، فنتعرف من خلاله على أزمة ارلندا الأساسية، والنزوع إلى التحرر الشخصي والعام. يناقش العمل التاريخ الشخصي لأبطاله واختيارتهم في ظل السياق الاجتماعي. داديلويس، مدرس تاريخ ولكنه يفشل في قراءة واقع ومستقبل بلاده ويتحرك في نهار دبلن ليحضر جنازة أحد معارفه الذي تحزن عليه المدينة كلها. «ستيفن»، شاب يتسم بالوسامة والذكاء والمحبة، ولكنه مهموم بقضايا كبرى ومنها التاريخ واللغة وأسلوب المستعمر الذي قضى على الثقة بالنفس وقتل اللغة الأصلية للشعب الإرلندي. يتحرك ستيفن في قلب دبلن بالصدفة أو متعمداً فيذهب إلى المستشفى لزيارة زوجة صديقه التي أنجبت ثم إلى المكتبة الوطنية حيث يقابل مدير المدرسة ويدخل في حوار معه حول تاريخ ارلندا وعلاقتها باليهود وأنها لم تضطهدهم يوماً لأنها لم تسمح لهم بالدخول بتاتاً. في الوقت نفسه نتعرف إلى ليبولد بلوم، اليهودي مروج الإعلانات الصحافية الذي يعيش مع زوجته «مولي» التي تخونه. هو نفسه ليس مخلصاً لزوجته ويراسل سيدة ويتلقى منها خطابات وله اسم مستعار. هو يعلم تماماً أن زوجته ستستقبل في الليلة ذاتها عشيقها، مغني الأوبرا، وبخنوع وخيبة يترك البيت لهما، ليتجول في شوارع دبلن وحواريها وحاناتها ومستشفياتها وحدائقها. الرواية من 18 جزءاً مقسمة على هيئة متاهات كمتاهات الأوديسة التي كتبها هوميروس وبني عليها جويس روايته. يتعامل أهالي دبلن، بخاصة في الحانات مع «بلوم» بعنصرية شديدة لدرجة تصل بالشجار بالأيدي ويدافع «بلوم» عن وجوده بقوله إن الوطن لا يعترف بالدين ولكن بالمواطنة. في رحلته يقابل بلوم ستيفن الكثير من البشر ويحضر جنازة مع والد ستيفن ويتناول غذاءه مع عم ستيفن وأول مقابلة حقيقية له مع ستيفن في المستشفى وهو يزور زوجة صديق ويجلس مع أصدقاء ستيفن من الأطباء في حجرة الأطباء ويتناول معهم الشراب. يتجه بلوم إلى الشاطئ وهناك يتلصص على فتاة ويشتهيها ونكتشف في النهاية أنها عرجاء، دلالة على أن الجمال لا يكتمل. يتقابل بلوم وستيفن مرة ثانية ويذهبان إلى حانة ويسكر بلوم حتى الثمالة ويذهبان إلى منزل بلوم، وهناك يحدث بينهما حوار حول اللغة والثقافة ويرفض ستيفن المبيت معه. تنتهي الرواية بمونولوج داخلي لزوجة بلوم في سبعين صفحة تحكي فيه عن تجربتها الأنثوية والحياتية وتطورها النفسي والجنسي من خلال علاقاتها المتكررة مع عدد من العشاق. «عوليس»، تعتبر من النصوص الحداثية التي أثرت في شكل الرواية إلى حد بعيد، وهي لا تزال تثير شغف الباحثين والقراء وتقف جنباً إلى جنب مع روايات عظيمة مثل «البحث عن الزمن المفقود» لمرسيل بروست، و «السيدة دالوي» لفرجينيا وولف. كانت الرواية تمثل العصر الجديد بكل طموحه وإحباطه وقلقه وفلسفته في الحياة والعلم والحرب والفناء والعالم المشرق الجديد. ربما كانت بداية لموت الملحمة الشعرية التي بنى عليها جيمس جويس روايته وهي ملحمة الصراع من أجل البقاء والعودة إلى الزوجة المحبوبة «بنيلوب» والابن «تليمكيس»، والمدينة الحبيبة أيثيكا. ولكن في هذه الرواية الزوجة خائنة والولد توفي ولم يبق لبلوم غير ابنة تعيش بعيداً منه، فيتسول الاهتمام من «ستيفن دديلوس»، هذا الشاب المتأمل غير المرتكز على حقيقة معينة. الرواية تسجيلية ونفسية في الوقت نفسه، فهي تحكي عن أهل دبلن وحياتهم الشخصية وتتلصص على فراشهم ورغباتهم الدفينة ولكنها أيضاً تحكي عن تاريح ارلندا وزعيمها أوكونل وبرنال ومايكل كولنز ودي فلارا. هي تسجل أدواتهم وحوانيتهم وأطعمتهم ومشاربهم وأسماء شوارعهم لدرجة كبيرة، أعلن جويس أنه كتب هذه الرواية حتى إذا دمرت الحرب دبلن، يمكن الحكومة أن تعيد بناءها من وصفها في روايته. الرواية نشرت على حلقات في جريدة «ليتل رفيو»، ثم بحث جويس عن ناشر ولكن لم يتحمس لها أحد خوفاً من الرقابة، فقامت سليفيا ببيتش وهي صاحبة مكتبة «شكسبير أند كومباي» في باريس بنشرها وتهريبها إلى أميركا بعدما حرقتها السلطات الإنكليزية. وكان تي اس اليوت يرى أن تلك الرواية هي حجر الأساس في الحداثة، لأن الكاتب استخدم الأسطورة كبناء تحتي وقاعدة مرجعية لطرح رؤيته للعالم الروائي وبذلك ربط بين رؤيته الخاصة والتراث. وأعجب بها أيضاً الشاعر الأميركي عذرا باوند، وكتب عنها مقالات عدة. وتعد «عوليس»، من أهم الروايات النفسية في تاريخ الكتابة الروائية، فقد طور فيها جويس استخدام تقنية التداعي الحر وتيار الوعي حيث يسمح الراوي بطرح بواطن الشخصية الروائية من دون تدخل الكاتب وبذلك يعكس الوجود المادي والنفسي لأبطاله بغية التعرف اليهم في شكل وثيق. كتبت هذه الرواية احتفالاً بذكرى تعرف جيمس جويس على زوجته نورا برنكل يوم 16 حزيران (يونيو)، وهو معروف بيوم بلوم حيث تحتفل أيرلندا كلها بهذا اليوم. الرواية ترجمها كما ذكرنا المصري طه محمود طه في ثمانينات القرن العشرين... وهي غير موجودة في السوق فهل تطبعها دار نشر عربية مرة أخرى؟
مشاركة :