اندلعت الحرب العراقية - الإيرانية العام 1980، واستمرت حتى العام 1988. كانت ثماني سنوات من الدم والخراب، حصدت أرواح نحو مليون قتيل، فضلا عن مئات آلاف المصابين والمتضررين بشكل مباشر أو غير مباشر. الحرب التي عدت أطول نزاع عسكري في القرن العشرين، بلغت خسائرها المالية نحو 400 مليار دولار أميركي، أثقلت كاهل ميزانية البلدين، وأخرت التنمية والبناء لسنوات عديدة، وبقيت آثارها حتى الساعة، لا تعاني منها طهران وبغداد وحدهما، بل منطقة الخليج بأكملها. هي "مأساة" إنسانية بما تحمل الكلمة من معنى، و"كارثة" وقعت كان من الممكن لو تم تجنبها، أن يتغير وجه المنطقة، وتنعم بمزيد استقرار وتنمية، تنعكس بشكل مباشر على شعبي البلدين. من هنا، وصف ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الحرب مع إيران ب"الكارثة"، التي شدد على أن المملكة "لن تسمح بها". وهو في حواره مع مجلة "الإيكونومست" قال بشكل واضح إن "الحرب بين السعودية وإيران تعني بداية كارثة كبرى في المنطقة، وسوف تنعكس بقوة على بقية العالم"، معتبرا أن "من يدفع بهذا الاتجاه فهو ليس في كامل قواه العقلية". هذا الموقف الذي يراد به تغليب لغة العقل، على لغة التحريض والتهييج الغرائزي، قاربه أيضا وزير خارجية الإمارات الشيخ عبدالله بن زايد، حينما أكد على أنه "في السياسة لا يوجد شيء اسمه رفض الوساطات، ولا يوجد خلاف أمد الدهر، فإيران ستبقى جارا لنا، وعلينا أن نتعامل معها على هذا المنهج، ولكن هل نحن نستطيع أن نعيد العلاقة مع ايران كسابق عهدها دون أن نعالج هذه المشكلات بيننا"؟ الموقفان السابقان يقرأ من خلالهما المراقب أن السياسة تقتضي التعامل بعقل بارد، مرن، غير مندفع، يغلب المصالح الوطنية، والأمن والسلم الإقليميين، على ما سواهما من مشاعر الكراهية أو العداوة؛ لأن السياسي رجل يبحث عن حلول للمشكلات القائمة، بطرق دبلوماسية وسلمية، مؤجلا استخدام القوة الخشنة إلى نهاية المطاف، على اعتبار أن ما يمكن تحقيقه عبر الحوار أو الوسطاء أو حتى "القوة الناعمة" مقدم على الحرب، درءا لمخاطر وكوارث الأخيرة. عبدالرحمن الراشد، وفي مقال له بصحيفة "الشرق الأوسط"، تحدث عن كيف أن الأزمة بين السعودية وإيران هي اليوم "بلا دبلوماسيين ولا وسطاء"، معتبرا أنه "في الأزمات الخطيرة ليس هناك أهم من الدبلوماسيين". معتقدا أنه "في هذا الفراغ سيكبر الخلاف السعودي - الإيراني، الكبير أصلاً، وستتوتر المنطقة الملتهبة أكثر". إذن، هي الدبلوماسية الطريق الوحيد والأقل كلفة للخروج من أي أزمة. ولكي ينجح هذا الخيار لا بد أن تكون هنالك أرضية مشتركة بين الأطراف محل الاختلاف، ينطلقون منها لحل المشكلات القائمة، بشكل واضح وصريح ومباشر. لأن محاولة اعتبار الخلاف الحالي بين الرياض وطهران، مجرد خلاف عادي تسببت به مجموعة من المشاغبين والغوغاء في طهران ومشهد، هو تبسيط للموضوع، وقفز على الحقائق، ونوع من تأجيل المشكلة وترحيلها إلى المستقبل، التي ستعود لتنفجر فيه الألغام مجددا، وربما بشكل أكثر سوءا. إن الحرب التي يشتهي بعض المتطرفين والجهلة وقوعها، لن تنجر لها السعودية كما صرح الأمير محمد بن سلمان، وعلى القيادة السياسية في إيران أن تعمل في اتجاه تجنب التصعيد أيضا، وأن تقدم مبادرة حسن نوايا، باتجاه تصحيح العلاقة مع الرياض. وربما تكون خطوات المحاسبة والإقالة التي طالت عددا من المسؤولين الإيرانيين فيما خص موضوع الهجوم على المقار الدبلوماسية السعودية، هو خطوة بهذا الاتجاه. ولكن الأهم، أن تبنى التفاهمات على أساس علاقة الاحترام المتبادل والندية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة، والبعد عن اللعب بورقة الصراع المذهبي والأقليات. ومن شأن ذلك أن يصب في مصلحة استقرار المنطقة، وهو استقرارٌ الجميع في حاجة له، لمواجهة تغوّل التطرف والجماعات الأصولية.
مشاركة :