لعلنا نبدأ بالتساؤل القائل: ما دور التعليم العالي في المجتمع؟ والإجابة عن هذا التساؤل متوافرة لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم "اليونسكو UNESCO". تقول هذه الإجابة التالي: "يقدم التعليم العالي رصيدا ثريا من الأصول الثقافية والعلمية التي تؤدي إلى تنمية إمكانات الأفراد، وتعزيز التقدم الاقتصادي والاجتماعي، ويسعى هذا التعليم إلى الارتقاء بنشاطات التبادل المعرفي، والبحث والابتكار، كما يزود الطلاب بالمهارات اللازمة للتفاعل مع متطلبات سوق العمل ومواكبة تغيراتها". تشمل مؤسسات التعليم العالي، المسؤولة عن تنفيذ الدور المنوط بهذا التعليم، جميع المؤسسات التعليمية التخصصية التي تتولى تأهيل الطلاب بعد استكمالهم مرحلة التعليم الثانوي، وتبرز الجامعات على رأس هذه المؤسسات. وللتعليم العالي، في إطار دوره المنشود، ثلاث مهمات معرفية رئيسة، هي: التعليم والتدريب، والبحث العلمي، إضافة إلى ما بات يعرف بالمهمة الثالثة. وتشمل هذه المهمة، نشاطات التعليم المستمر التي تسهم في تمكين أبناء المجتمع من التعلم مدى الحياة، ونشاطات نقل التقنية التي تعزز استفادة المجتمع من معطيات البحث العلمي، إضافة إلى التفاعل مع المتطلبات المعرفية الأخرى للمجتمع، والاستجابة لمتغيراتها. ويمكن القول، على أساس ما سبق، إن مؤسسات التعليم العالي هي مؤسسات خدمية تقدم خدمات معرفية تستهدف تأهيل أبناء المجتمع وتمكينهم من الإسهام في تنميته اقتصاديا واجتماعيا. وتحتاج هذه المؤسسات، من أجل تنفيذ نشاطاتها المأمولة بالأداء المطلوب، إلى إدارة تتمتع بالخبرة في الإحاطة بهذه النشاطات، وبالجودة في إدارة شؤونها، إضافة إلى تمكنها من الموارد الكافية لتحقيق ذلك. ولأن المعرفة تمثل جوهر عمل مؤسسات التعليم العالي، ولأنها في تطور مستمر، بل متسارع أيضا في هذا العصر، فإن على مؤسسات التعليم العالي أن تواكب المتغيرات والمعطيات المتجددة، وأكثر من ذلك، أن تسعى إلى الإسهام قيها أيضا. وغاية هذا المقال، والمقال التالي، هي طرح منطلقات لتطوير التعليم العالي نحو مزيد من العطاء في مجالي التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية. وتستند هذه المنطلقات إلى ما ورد في كل من الوثيقة الرئيسة لرؤية المملكة 2030، والوثيقة الإعلامية لأحد برامجها، وهو برنامج تنمية القدرات البشرية. إذا بدأنا بمنطلقات التنمية الاقتصادية ذات العلاقة بمهمات مؤسسات التعليم العالي ونشاطاتها، والواردة في رؤية المملكة 2030، لوجدنا أن هناك توجهين رئيسين في محور الرؤية الخاص بالاقتصاد المزدهر. يرتبط التوجه الأول منهما بمهمة التعليم، حيث يقضي "بالتعليم من أجل العمل". ويبرز هذا التوجه ضرورة التوافق بين التأهيل المعرفي الذي تقدمه برامج التعليم العالي من جهة، واحتياجات سوق العمل من جهة أخرى، حيث يؤدي هذا التوافق إلى جعل خريجي التعليم العالي أكثر قدرة على الانخراط بسرعة في سوق العمل، وعلى توظيف مؤهلاتهم في أداء الأعمال المطلوبة على أرض الواقع. يتعلق التوجه الثاني للرؤية بمهمة البحث العلمي في التعليم العالي، حيث يركز هذا المحور على "المنشآت الصغيرة والمتوسطة" التي باتت جزءا مهما من المخرجات التي تقدمها الجامعات من خلال البحث العلمي. فالبحوث العلمية الأصيلة تقدم الأفكار الجديدة الموثقة التي تحتاج إلى نشاطات البحوث التجريبية والإعداد للسوق، ربما عبر الحاضنات والتعاون مع قطاعات الأعمال، لتقدم في مخرجاتها منشآت واعدة قادرة على توليد الثروة وتشغيل اليد العاملة، والإسهام في التنمية وتعزيز استدامتها. وكثيرا ما توصف هذه المنشآت "بالمنطلقة Spin-off" من الجامعات. وهناك تقرير بريطاني، صادر في 2021، عن المنشآت المنطلقة من الجامعات البريطانية، يبين مجالاتها ومدى تأثيرها الاقتصادي الفاعل. يقدم برنامج تنمية القدرات البشرية، المنبثق عن الرؤية، نظرة أكثر تفصيلا في موضوع المنطلقات الاقتصادية الخاصة بالتعليم العالي. يدعو البرنامج إلى تأهيل يؤدي إلى جعل المواطن قادرا على المنافسة عالميا، عبر تطوير أساس تعليمي مرن ومتين، أي مرن في استيعاب المتغيرات والاستجابة لها، ومتين في الأسس المعرفية التي يستند إليها. ويضاف إلى ذلك أيضا اهتمام البرنامج بإعداد خريجي التعليم لسوق العمل المستقبلية، وإتاحة فرص التعلم مدى الحياة، والاهتمام ليس فقط بالمهارات الأساسية اللازمة لذلك، بل بالمهارات المتوقعة في المستقبل. ويولي البرنامج اهتماما خاصا بتفعيل إمكانات الابتكار لدى الطلاب، حيث يدعو إلى ترسيخ التفكير التحليلي، وتفعيل الخيال الإبداعي، الذي يعده العالم الشهير ألبرت أينشتاين Albert Einstein الوسيلة الرئيسة للتجدد المعرفي. ويهتم البرنامج أيضا بتطبيق العقلية المرنة في محاكمة المشكلات المطروحة وإيجاد الحلول المناسبة لها. وفي كل ذلك بالطبع ما يعزز إمكانات العطاء البحثي، وإطلاق المنشآت الواعدة. وتبرز، في إطار توجه التعليم نحو سوق العمل والتنمية الاقتصادية، مسألة مهمة هي مسألة التطور الذي يشهده علم الذكاء الاصطناعي والروبوتات، حيث يعد هذا العلم بإحلال الروبوتات محل الإنسان في الأعمال الروتينية. وعلى ذلك فإن على التعليم العالي أن يهيئ الإنسان لوظائف المستقبل، حيث يعمل الإنسان جنبا إلى جنب مع الروبوتات، مؤديا الأعمال الأكثر ذكاء وتفكيرا، تاركا الأعمال الروتينية للروبوتات من حوله. ويعزز التوجه نحو تفعيل إمكانات الابتكار، توجه إعداد مخرجات التعليم العالي للعمل في الوظائف الأكثر ذكاء. ويؤكد برنامج تنمية القدرات البشرية، في مجال الوظائف، الاهتمام بالتخصصات المتوافقة مع الاحتياجات المحلية وتطوراتها المستمرة. وهكذا نجد أن طموحات رؤية المملكة 2030، وكذلك تطلعات برنامج تنمية القدرات البشرية المنبثق عنها، بشأن توجهات مؤسسات التعليم العالي نحو التنمية الاقتصادية في المستقبل، تحملان نظرة مستقبلية واقعية بشأن مهمتي التعليم والبحث العلمي في هذه المؤسسات. وتقضي هذه النظرة بضرورة الاهتمام بمبدأ الجدوى، جدوى التعليم عندما يواجه السوق على أرض الواقع، وجدوى البحث العلمي عندما يواجه التنافس المعرفي العالمي، ومتطلبات توظيف المعرفة، وتقديم قيمة فاعلة تسهم في تعزيز معطيات الحياة الاقتصادية. ولنا، بمشيئة الله، عودة في المقال المقبل، إلى طرح توجهات التنمية الاجتماعية، الواردة في رؤية المملكة، وفي برنامج تنمية القدرات البشرية، التي يمكن لمؤسسات التعليم العالي الاستفادة منها في تطوير عملها، وتفعيل أثرها في المجتمع... يتبع.
مشاركة :